يعرفه قراء جريدة السفير الموريتانية في زاويته المشهورة "الشارع الأخير" أيام كان للصحافة معنى وكان للصحف قراء يتنافسون على شرائها، ولم يكن في قاموس ذلك الجيل ما يسمى اللصق والنسخ، فاشتهر حبيب الله بشارعه الأخير الذي كان صوتا قويا في زمن السكوت والدكتاتوريات.
وكثيرون لا يعلمون أن حبيب الله ولد أحمد يكتب النسبة الكبرى من أشهر صحيفة ساخرة هي صحيفة "أشطاري" يرأس تحريرها ويتقمص شخصية رئيس حزب "وداجه" وهو "بوحنوك" وهو "حبة الفلجه" وهو الذي يتقمص دور الشخصيات التي تجري معها الجريدة مقابلات مثل "تيبه" و"شيخ اجراد"، أذكر له مقابلة أجراها مع مدير شركة الصين التي أبرمت صفقة الصيد مع الدولة الموريتانية فكان مانشات الجريدة يومها:
"مدير الهيشة الصينية في لقاء مع جريدة أشطاري : شوماسينو ساوسيناساو بيسسسو..".
في الجانب الآخر من شخصية حبيب المتعدد المواهب أنه ممرض أنسان وفي في الأشعة، لكنه يفضل أن يكون عمله إنسانيا في كل المستشفيات فلا تراه إلا وهو يساعد أحد المرضى، ويقف إلى جانب ويسهل له الدخول على المستشفى، كان مرة يريد أن يحقن أحد المرضى فقال المريض: ابحثوا لي عن طبيب فهذا صحفي لا أريده أن يحقنني، فقام حبيب المتواضع بالبحث له عن ممرض بديل يحقنه.
يتحدث حبيب الله عن مذكراته مع التمريض بقلمه السيال المبدع ويرسم لوحات إنسانية بريشة فنان بارع وهنا نترككم مع هذه الكلمات من "مذكرات ممرض" للكاتب حبيب الله ولد أحمد:
"ولتكن البداية مع هذه القصة العائلية التي تعكس بصدق روح الحب والحنان والتآلف بين الممرضين والمرضى.. بين المشتغلين بالطب والمرضى المشردين الذين لا يجدون في هذا العالم ركنا قصيا دافئا مسكونا بالحنان أكثر من ركن الطب والتمريض والأجواء الإنسانية الخاصة.. كان ذلك في نهاية شهر رمضان عندما أحيل إلينا في قسم الأمراض الباطنية رجل مسن بلا معيل وبلا مرافق..
رجل جاوز السبعين من عمره تم حجزه في قسم العناية الفائقة بالمستشفى بمبادرة من بعض الأطباء والممرضين، إذ أنه عاش وحيدا كما قال، وقد تقطعت به السبل عندما غادر الحدود المالية الموريتانية بحثا عن عمل في العاصمة انواكشوط. يتذكر هو أن ذلك كان منذ عشر سنوات وأنه لا يعرف لأهله عنوانا وأنه يعتقد أنهم رحلوا إلى العمق المالي هربا من أجواء الحرب والقحط التي أحرقت المنطقة الحدودية كلها ففرقت الأسر وقضت على كل أشكال التنمية والزراعة وأتت على الأخضر واليابس.
بعد قضائه أياما طويلة وبائسة في قسم العناية المركزة (الإنعاش) تحسنت حالته إلى حد ما فكان من اللازم أن يتابع بعضا من العلاجات ويخضع للمراقبة في قسم الأمراض الباطنية..
وهكذا وصل الرجل الغريب إلى القسم وخصص له سرير في إحدى الغرف الجماعية للمرضى..
وكان أهم شيء لدينا أن يشعر هذا الرجل بأنه ليس ضائعا ولا مشردا ولا غريبا.. إن علينا أن نحيطه بجو من الأمان.. وطبيعي أن نتولى تكاليف صرف الأدوية له كل حسب استطاعته، وفعلا لم يفتقد في أية لحظة أيا من الأدوية التي كانت مقررة له.. فكل الممرضين والأطباء ساهموا في الاعتناء به وتوفير أدويته.. ولقد كان ينادينا دائما "يا أبنائي" وهي كلمة يشحنها الضياع بكل معاني الحنين.. كلمة تعني كثيرا من الود والتآلف عندما ينطقها رجل تكالبت عليه عاديات الزمان وعاش التشرد والغربة والمرض.. رجل بلا وطن وبلا عنوان، رجل عاش وحيدا ردحا من الزمن ونعتقد نحن أنه لا يمكن أن يموت وحيدا.. إن تعاطفنا معه يجب أن يكون جو السكينة الذي يجب أن يغمض عليه عينيه الغائرتين في ثنايا وجهه المظلل بالفناء..
كان ضعيفا.. وكانت حالته تزداد سوءا.. وكان ملفه الطبي شاهدا على أنه لن يعيش طويلا وأن مرضه انتصر في النهاية على كل ما بذلناه جميعا وما بذله الآخرون من قبلنا من جهود لمحاربته.. ولكن أروع ما في حياتنا –نحن الذين نمتهن التمريض والطب- هو أنه لا مكان لليأس، وأن المعركة ضد الألم يجب أن تتواصل حتى النهاية بدون حدود أو حواجز.. وبدون كلل؛ لذلك أحطنا ذلك الرجل –الذي أصبح والدنا وأخانا، وأصبحنا معه نشكل عائلة واحدة شعارها الحنان والتعاطف والرحمة- بكل ما هو متاح من وسائل العناية طبيا وإنسانيا..
وأتذكر يوم عيد الفطر عندما ذهبنا به وعملنا له حماما ساخنا وألبسناه ثيابا جديدة ليعيش فرحة العيد مع الآخرين.. صحيح أنه كان ضعيفا للغاية، وأن رحلته إلى الفرح طويلة ومظللة بالمجهول، وصحيح أنه لهجته (خليط من العربية والطوارقية والمالية) تمنعه أحيانا من التعبير لنا عن غبطته بهذا الجو؛ كما أنها تمنعنا من الاستفاضة معه لمعرفة إحساسه ووضعيته النفسية. ورغم كل ذلك فقد ارتسمت ملامح معينة على وجهه.. ملامح تحمل شيئا من البريق قرأناها نحن تعبيرا بسيطا عن امتنانه لهؤلاء الذين أصبحوا له أبناء وإخوة بعد أن رمته الأقدار بعيدا عن أهله ووطنه!!
مشهد لا يمكن نسيانه فقد تحملت إحدى الممرضات العاملات معنا مشقة تنظيف كل ثيابه وجلبت له دراعة جديدة وأشرفت بنفسها على تنظيف جسده وتطييبه.. وكان لعيدنا ذلك طعم خاص، لقد كنت في المداومة ليلة العيد ويومه؛ ولا زلت أتذكر كيف كان ذلك الرجل يشد على يدي محركا شفتيه كأنه يريد أن يتكلم ويعبر عن شيء ما داخل نفسه!!
وإذا كان يوم العيد قد مر على مريضنا وهو بخير يحاول أن يفرح مع الآخرين فإن اليومين المواليين كانا حرجين في حياته..
وجاء ذلك اليوم الذي رحل فيه عن عالمنا وودعناه حتى بيت الرحمة ومن ثم تطوع رجال محسنون بدفنه والصلاة عليه..
قصة تحمل الكثير من المعاني الإنسانية الرائعة، وتحمل دلالة واضحة بأن عائلة الطب هي عائلة للجميع.. مفتوحة أمام الجميع؛ وأن بالإمكان محاربة الضياع والتشرد والبؤس وأن زراعة الأمل والإحساس بالحياة والطمأنينة هي وحدها الزراعة الأكثر ثمارا في هذا العالم؛ لأنها تنبت الرحمة والتآلف والسكينة، ولأنها تخلق ظلالا وارفة لكل الذين أحرقهم جحيم الحياة...."
مختار بابتاح