ما أجمل الحديث عن قصص واقعية متناثرة هنا وهنالك، نجدها ترسو أحيانا على حافة الطرق، بقرب إشارات المرور، ومرات أخرى تتطاير ويتم تقاذفها عند باعة الصحف والجرائد، لكنه من النادر أن نجد الواقع في قصة بدل العكس، وخاصة إذا ضمت من الإنشائية والفنية في السبك والأدبية ما يجعلها تنبض بالحياة والمعاناة رغم كونها خيالية، شخوصها من خلاصة حكاية مجتمع وقصاصات أحاديث الفتيات، والفتية، ومجالس العائلات.
وغريب أن نرى الفتيات تتخذن من بهو البيت مكانا مكشوفا بالهواء الطلق مظنة للراحة بعيدا عن زوايا وأركان المنزل الخانقة، في قصة رأي العين، وهن يحكين - ويحكى عنهم – ما أثبت لهم إنسانتهم في نوع من الإنصاف والتصوير الموضوعي، رغم ما يعشنه من ظلم وحيف في فضاء تعبيري مغلق، يرونه ويعشن داخل هالة من التأنيب إن نطقن بأحلامهن حتى إن كان الواقع والحظ هما العدوان اللدودان لهما، والمتهمان الرئيسيان فيما حدث لهن.
أم لخوت هي امرأة عبرت عن لوعة صارخة بظلم المجتمع الطافح وبظلم النماذج التي يروج لها وتسكن أفئدة المهووسين بالنماذج والكليشيهات، إنها الحقيقة حين تحكي نفسها، وحين تجافي قيودها وتحفظات الجماعة، واقفة عند محطات سقوطها، وشريط ذكرياتها الممحو بالدموع، والحسرة والانتظار المتبتل في محراب اليأس المقيت.
لا شك أن رجلا بقدر الكاتب والصحفي اللامع المختار بابتاح قد جاوز تسطير الحكاية المتخيلة، إلى بناء مخيال لصور واقعية، ومأساة أسطورية بطلتها الوحدة، وساردها الواقع المعاش، فكم من فتاة تم وصفها بالأحسن من بين قريناتها، والتي يغدر بها الزمن وتصارع الأيام والأوهام وهي تركل حظها العاثر.
إنه الأدب حين ينقل لك تجارب الآخرين الذين يرفضون قص حكاياتهم وتفاصيل معاناتهم، إن السرد حين ينزل من عرشه مصافحا أناة النواعم المصونات في خدورهن، إنه الإبداع حين يكشف عن عوالم جديدة تكتنز الآلام والأحلام، وتتستر على ظلم وحيف كبيرين، إنها الأدبية حين تفضح سر الليالي الظلماء الطويلة والمتتالية والتي - لا محل لها من الإعراب في ذكر الذاكرين وفي مطالب الحقوقيين والاجتماعيين.
إنه القصص حين يتحدث بطلاقة نيابة عن الآخرين ويشكو للمنصفين مشاكلهم، ويعترف للبائرة بإنسانيتها، وبمكامن جمال روحها التي لا تستكين، والتي تبكي صروف الدهر، وظروف العصر، .. بكاءها منصف .. فلم يبك صغير ولا كبير قط إلا وفي قلبه أمل بأن يسمع آخرون يمتلكون البشرى وباقات التهاني بأن لا شيء مما يعكر صوفهم موجود، وأن كل شيء أثقل على صدورهم قد انزاح بلا رجعة.
أم الإخوة (أم لخوت) اسم مركب من قسمين، أحدهما (أم) يشير إلى الأنوثة والحنان، والمسؤولية والخوف، والتربية، والخبرة، .. وهلم جرا، أما القسم الثاني فيشير إلى الذكور الذين اجتمعوا متنكبين لفضل الأنثى التي هي صاحبة كل المعاني السابقة المتتالية، في إشارة للغدر والتملص من المسؤولية التي يمارسها الرجل ضمنيا على الجنس الناعم.
تحية لك أيها المبدع وتحية لنصك الأخاذ "وتبددت الأحلام" صاحب المعنى النفاذ إلى قلوب القراء والمتلقين، إلى وجدان وتحية أخرى إلى "أم لخوت" التي صارت شخصا يسكن بيننا، تجسمه الكلمات، وتحدد ملامحه العبارات، وتنمق كلماته وتسكبها في نسق جديد بات معروفا تمثله الفتاة المظلومة من قبل المجتمع الجاف والقاسي.