في هذه الأرض الذلول خلق الله رجالا محبين للرحلات فيها واستكشاف نوادرها ثم التدوين عن أسرارها فكان ابن بطوطة إمام الرحالة وملهمهم، وخلف من بعده خلف من الركبان يكتب نثرا ويقرض شعرا عن قوافل الحجيج القادمين من المغرب إلى المشرق يوثقون مغامراتهم التي تخلد وتوثق بعد تأدية مناسك الحج حتى أنتجوا لنا عبر الأزمنة الغابرة أدبا ماتعا عرف ب"أدب الرحلات".
خلقهم الله وخلقني الله كذلك محبا للاستكشاف مولعا بالتجوال والمشي في مناكب الأرض كلها فولجت باب الصحافة الواسع المتجول بطبعه فلم يبق موطئ من بلادي الحبيبة موريتاتيا إلا مررت عليه وسجلت عنه كلمات قليلة أو كثيرة،
ثم ذرعتُ بعد ذلك بلاد الله الواسعة شرقا وغربا، برا وبحرا وجوا، فركبتُ ثبج البحار والمحيطات وتقاذفتني أمواج الأطلسي ذات مساء والفلك تجري بي حيث جرت فلك أخرى ذات تاريخ أسود ببعض العبيد الأفارقة وهم يساقون إلى القاع حيث سوق النخاسة الأوربي الظالم.
وحمتُ مراتٍ في سموات الدنيا وتأمّلتُ السحب البيض من الأعلى وهي تمطر وترعد وتبرق، وخضتُ رحلات جوية مملوءة بالمطبات المخيفة.
و قابلتُ شعوبا وقبائل شتى وقوميات كانت آية من آيات الله في اختلاف الألسن والألوان.
سامرتُ الأفارقة في لياليهم الصيفية الساخنة إذ يعيشون في الأدغال والغابات المنسية وكتبتُ عن ثقافاتهم وعاداتهم الغريبة على شعوب أخرى.
رحلاتٌ كثيرة ومتنوعة كتبت عن بعضها وسأكتب عن البقية إن متعني الله بمزيد من العمر والفراغ ، كانت كلها ممتعة حقا لكنها جميعا لا تصل في إمتاعها وشوقها إلى رحلة من رحلات العمر ستبقى محفورة في ذاكرتي ما حييت.
بدأت القصة مع رسالة قصيرة كتبها سعادة سفير خادم الحرمين الشريفين في نواكشوط محمد البلوي، رسالة قصيرة بحروفها لكنها طويلة في معناها ومبناها (أنت ضمن ضيوف خادم الحرمين الشريفين لأداء العمرة والزيارة).
طيبة.. أم القرى.. يا إلهي!!
شددنا الرحال والشوق يسابقنا إلى الديار المقدسة.
بعد رحلة مرت بالدار البيضاء المغربية وصلنا سماء مدينة الحبيب محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد المغرب، تتراءئ لنا أنوار مدينة أضاءت الكون كله منذ قدوم المصطفى صلى الله عليه وسلم مهاجرا إليها.
نزلنا المطار فوجدنا البشاشة بادية في وجوه قوم كانوا - كلهم - يتخلقون بأخلاق الأنصار يحبون من هاجر إليهم،يتسابقون إلى ضيافتنا كلهم يسأل سؤالا متكررا : هل تريد خدمة؟
أولئك الأنصار الجدد المستقيلون للمهاجرين الجدد إلى المدينة إنهم القائمون على برنامج ضيوف خادم الحرمين الشريفين فجزاهم الله مجازاة الأنصار وأبناء الأنصار.
ولجنا فندق (سوفيتل) فاستقبلونا بالزهور وأهازيج المدينة العتيقة (طلع البدر علينا من ثنيات الوداع ..). سالت دموع الفرح وما ظنكم بمسلم يضع أقدامه حيث سار رسول الله صلى الله عليه وسلم مرات في تلك الأزقة وحيث استنشق ذلك الهواء الطلق ، لا يملك المرء إلا أن يسجد شكرا لله ثم يدعوه أن يجازي خادم الحرمين الشريفين وولي عهده والقائمين على برنامج الضيافة خير الجزاء.
إقامة مريحة وممتعة جعلتنا نصلي الخمس في مسجد رسول الله عليه الصلاة والسلام نزور روضته الشريفة سحرا فتهب علينا نسائم المدينة وماذا عسانا أن نكتب عن نسائم فواحة بعبق التاريخ النبوي المنير، يوم كان يؤذن بلال ويوم أذن لاحقا في عهد عمر فبكت المدينة كلها،
ماذا أكتب عن نسائم مدينة يفوح منها دهرا عبق تاريخ من الرحمة المهداة للعالمين.
خرجنا - معشر الضيوف المبجلين- ذات صباح مدني هادئ نستنطق تاريخ العاصمة النبوية وقفنا على جبل الرماة فاستقبلنا جبل من جبال الجنة، جيل نحبه ويحبنا ، نطقت الحجارة الصماء في شهادتها على تلك الملحمة البطولية بين المؤمنين والكفار وكان يوم التمحيص، عشنا لحظات مع المؤمنين يوم مسهم القرح ويوم اتخذ الله منهم شهداء من بينهم حمزة سيد الشهداء عم الرسول الأعظم.
صلينا في أول مسجد أسس على التقوى وكان منطلق الدعوة إلى الله، زارنا عن قرب بلبلا من بلابل الحرم المدني إنه الشيخ صلاح البدير قرأ لنا من آي القرآن بصوته الشحي تحدث لنا بصوته الجهوري عن فضل المدينة وهو يعلم أن الوقت لن يسعفه لفضائل طيبة الطاهرة لكن شذرات قليلة من الفضائل كانت كافية لأن تذرف دموع المشتاقين فهممت أن أصرخ وأناشد الشيخ : رفقا بنا …
يتواصل
-----------------
*إعلامي موريتاني