قرية تترحّل ودموع تسيل*

أربعاء, 2015-05-27 03:38

بولنوار.. القرية الوادعة بين تلين رملين هنالك جنوب غرب بتلميت، هنالك ذكريات طويلة وعريضة وجميلة منذ أن شاءت الأقدار قبل عقود أن تكون أول أرض مس جلدي ترابها، رضعت من لبانها وترويت من بئرها الزلال، وترعرعت حتى فقت على تلك البيوت الطينية، وهنالك كانت ملاعب الصبا وقراءة الكتاتيب، والمدرسة الابتدائية. 
وتدور الدنيا بتقلباتها ويتحرك هذا الفلك السيار، وتجري عجلة الزمان على صبي كان هنالك ذات يوم فتغزو التجاعيد وجهه، وتظهر على فوديه الشعرات البيض، فيمر على نفس القرية  قبل أشهر فيرى البيوت الطينية ما زالت موجودة، أقطع خطوات نحو مسقط رأسي فأتذكر ذلك الشيخ الذي تمتعت برؤيته كثيرا، واقتربت منه وأنا الصبي الخائف من عواصف الخريف ورعودها القاصفة يومئذ، كنت أتدفأ كثيرا بحضن والدتي وخالها سيدي ولد احظانا الشيخ الذي رحل عن القرية  قبل سنوات ليترك مكانها طللا دارسا، وتحول مسقط رأسي إلى نخلة يتفيأ الحمام ظلالها، وتحولت بين سنوات إلى ذكريات من الزمن الجميل، فأبحث عن خالات كن هنا في تلك الأيام فقاولا رحلن إلى قرية أخرى ليزداد المكان اتساعا وتسيل الدموع في تلك الذكريات الجميلة.
أتوجه جنوب شرقي القرية في منطقة رملية تمتعت بالتمرغ على حصاها مرات في برد الخريف القارس، بينما كان المسجد العتيق يشهد دروسا علمية للشيخ سيدي ولد احظانا ومحمد الأمين ولد أحمد عالم، وسط أذان الشيخ امدّيه وصوته "حي على الصلاه .. حي على الفلاح.." يملأ الآفاق يسمع من المسافات البعيدة، بينما يلهج لسان الشيخ محمد عبد الله ولد دداه كثيرا بذكر الله "لا إله إلا الله .. لا إله إلا الله". وبينما كنت أصلي التراويح إماما صغيرا لبنت الرسول منت مقام وامهاه بنت مقام كانا يودعانني بالدعاء "الله يفتح اعلينا واعليك.."  
أجل .. حق لعيني أن تدمع ومالها لا تدمع وقد زرت قرية خالية تماما من هذه السلسة التي رحلت تباعا إلى ربها الرحيم بها، مالي لا أدمع وأنا أطرق أبواب قرية خاوية على عروشها، وما بقي من أبناء هؤلاء معظمهم هاجر إلى المدينة، وكأنني أتحدث عن معاهد درّس، وأطلال كانوا هنا ذات يوم فودعوا تلك الديار الجميلة..
مالي لا أدمع ومناسبة الزيارة كانت تشييع جنازة أخت لي عشت قريبا منها شربت وأكلت معها في ذهابي وعودتي من حجرات المدرسة، كانت تعاملني كأخ أصغر، لا تمل مجالستي، تداعبني وأنا في صباي، تحن علي وتتفقد أخبار حين كبرت، إنها الأخت الحنون اميه بنت دداه، ما إن حثوت التراب عليها حتى بللت دموعي كفنها، منذ تلك الليلة وأنا أحزن كلما تذكرت تلك الديار.. 
سلامي إلى بولنوار، القرية الجميلة، بولنوار ديار الصبا، بولنوار القرية المحفورة في القلب مدى الحياة..

مختار بابتاح

 

* مختار بابتاح صحفي موريتاني

اقرأ أيضا