عقود تمضي، وصيرورة الزمن توبخنا. راحلون، نازحون، تائهون. وعلى ظهور حمير الركاكة، راكبون. شُغلنا الشاغل أن نبحث سرمدا عن مرعى خصيب لـ"أغنام" هزيلة، أبادها الجدب السياسي المُحيق بنا منذ ما يزيد على ستين سنة عجفاء كلها.
مستحيل، في تيهنا، أن نشرب ماءً عذبا، أو نرى ضوءا منيرا، أو نتداوى ببقايا أعشاب رطبة.. فالماء والإنارة وأمصال العلاج حوّلها "فراعنة" كراسي الأربعاءات إلى مضاربهم في ريف الأندلس وعلى ضفاف نهر السيْن الباريسي.
لم يعد أمامنا غير الرحيل: شبابنا إلى حائط المكسيك، وكهولنا إلى بحر الإحباط السريالي.
منذ الإعلان عن استقلالنا المنحوس، وإلى يومنا هذا، لم ننجُ، لحظة واحدة، من ذئب مدني يقضمنا، وأفعى عسكرية تلدغنا، وخنافس، من نخبة المثقفين، تنوّمنا بالأكاذيب والأحاجي الليلية الساحرة الفتانة، تنضاف إلى هذه الشلة هيئات ومؤسسات تمولها خزانة الدولة بالمليارات فقط لتكون مصنعا متطورا للكذب والأباطيل. لذلك يرى كل "أولاد عبد الجليل"، من حزب الشعب إلى الهياكل إلى الإنصاف، أن بطاقات البُداة، غير الموالين، لاغية كلها مسبقا، وبالتالي ظلت ديمقراطيتنا، منذ التسعينات، عنوانا باهتا للإفك والهراء والهذيان!!.. فأي معنى للديمقراطية ما دامت القبيلة تخدّر أفرادها بأمجاد الماضي وتقتل فيهم القدرة على التفكير العقلاني؟ وأي معنى للديمقراطية في شعب تمنعه الأمية والفقر والتخلف الثقافي من ممارسة حق الاختيار؟ وأي معنى للديمقراطية في أمة يَغيب فيها الديمقراطيون ويُغَيّب فيها المصلحون؟.. لقد كفانا فوكوياما مشقة تحليل واقعنا السياسي عندما قال محقا: "لا ديمقراطية بدون ديمقراطيين".
كم تعبنا من حمل همّ الديمقراطية جنبا إلى جنب معنا على ظهور حمير الركاكة، غير أننا اليوم فوجئنا ببلية أخرى عندما اكتشفنا، صدفة، أننا دخلنا عهد الغاز، وأن احتياطنا منه يكفي لإرواء إفريقيا مجتمعة. فوا أسفاه على الركبان وربّات الأجفان النواعس ورعاع الحي البدوي المسكين!!.. إن موجة من الحزن تنتابنا، وتسيل الدموع ضوامر، ثم تخرج الآهات من غمدها مثلما لم تخرج أبدا حتى في عهد مَعاتيه "الإنقاذ" و"الخلاص" الوطنييْن. ليست لواعجنا وحسراتنا مسرحا لإضحاك الأسنان المسوّسة، فالتاريخ الإفريقي علمنا أن الغاز والنفط يمثلان أقسى بلاء يحل بالشعوب غير المستعدة، فكريا وبنيويا، لتسييرهما. إنهما يشعلان بركان الحساسيات الجهوية والعرقية، ويسيلان لعاب أمراء الحروب الأهلية، ويحركان في "الكابْرالات" نزوة البحث عن السلطة بأكثر الوسائل عنفا. لهذا ها نحن، على ظهور حميرنا المثقلة بالزاد المتعفن، نصرخ: لَيْتَهم تركونا، مثلما كنا، بَدْوًا "أبرياء"، نقبل من حديدنا وذهبنا وسمكنا بالفضلة وبقايا ما تناثر من أفواه الحُكّام والمفسدين، ونكتفي، مقابل استنزاف مواردنا، بالعافية "الباردة". أمَا كان أرحم بنا أن يتركوا الغاز في جوف البحر في انتظار أن يُعِدّوا العدة له، وفي انتظار أن تنضج الظروف المواتية لاستخراجه؟.. نعم، كان بإمكانهم فعلا، غير أن أكثرهم لا يعقلون!!.
وبكلمة واحدة، فالديمقراطية والغاز ليسا بشارة في محيط ثقافي وفكري وسوسيولوجي مثل محيطنا، بل إنهما نكبة داهية ومصيبة جسيمة وطامة كبرى، ما لم "نصنع" لهما الإنسان القادر على استيعابهما ومسايرتهما.