تعتبر محظرة التيسير واحدة من أهم المدارس الدينية في موريتانيا حالياً، سواء من حيث عدد الطلاب أو طاقم التدريس أو حجم المؤلفات الصادرة عن هذه المحظرة .
يمتد تاريخ محظرة التيسير إلى أكثر من 300 سنة، حيث أسسها العلامة الموريتاني المشهور مولود ولد أحمد الجواد المتوفى سنة 1243 ه، وعاشت المحظرة أكثر من مئتي سنة من حياة الحل والترحال بين مناطق البادية الموريتانية وتحديدا في الشريط الشمالي والساحلي الجنوبي، وكانت بمثابة الجامعة التي تخرج فيها عشرات العلماء المجازين في مختلف العلوم الشرعية والعربية .
وفي سنة ،1973 استقرت المحظرة ببلدة التيسير، جنوبي موريتانيا، حيث حفرت بئر التيسير ومنذ ذلك التاريخ أصبح هذا المكان المقر المركزي للمحظرة الأم .
على بعد111 كلم جنوب نواكشوط، وبين الكثبان الرملية تتراءى لك دائرة شجرية مؤلفة من 43 ألف شجرة زرعها السكان لوقف زحف الرمال، وداخل هذه الدائرة الشجرية تقع قرية التيسير . . التي تقطنها 100 أسرة، ولا يوحي المنظر المتواضع للقرية وبناياتها بحجم الحركة العلمية الدائبة التي تعرفها محظرة التيسير . . لكن سرعان ما يتغير الانطباع عند وصولك إلى المحظرة التي يستمر التدريس فيها أغلب أوقات النهار والليل .
حرية اختيار المقررات
طلاب من مختلف الأعمار والجنسيات، من الصبية إلى الشيوخ، يدرسون في المحظرة مختلف العلوم الشرعية والعربية، وكل حسب مستواه ومبتغاه، حيث توفر المحظرة للطلاب حرية اختيار مقرراتهم الدراسية، ومقدار الدرس اليومي لكل طالب على حدة، سواء كان القرآن وعلومه، أو الحديث ومصطلحه، أو الفقه وأصوله، أو السيرة النبوية الشريفة، أو اللغة العربية بمختلف تفريعاتها، أو الفلك، أو الطب . وقد أصبح بعض الطلاب معيدين بالمحظرة رغم طاقمها التدريسي المتميز، وبعضهم يعيش على نفقته الخاصة، رغم أن المحظرة تتكفل بنفقة أي طالب معدم، كما أنها توفر السكن للجميع، يسكن الطلاب في بيوت متواضعة من القصدير، ويمضون أغلب أوقاتهم في الدراسة والمراجعة المكثفة التي تمكنهم من التخرج سريعاً .
ومجتمع طلاب المحظرة نموذجي في التعاون والتآزر، والطالب هنا إذا كان قد جاء لدراسة اللغة مثلا فهو سيتخرج وهو فقيه من دون أن يشعر بسبب كثافة الدروس الشرعية التي يسمعها من غيره من طلاب، وكذلك حال طلاب العلوم الشرعية الذين ينبغون في اللغة لكثرة حضورهم لدروسها .
وتفرعت عن المحظرة الأم 10 محاظر موزعة الآن على عدة مقاطعات بالبلاد، ويدرس بها شيوخ تخرجوا في محظرة التيسير، ويبلغ عدد طلاب المحظرة نحو 1000 طالب منهم 350 طالباً بالمحظرة الأم، وتعتبر نسبة الطلاب الوافدين إلى المحظرة - سواء كانوا من خارج البلاد أو داخلها- هي الأعلى بين طلابها، على أن عدد الطلاب ينقص ويزيد حسب الظروف والفصول . إذ غالباً ما يوجد طلاب يخصصون فصلاً أو اثنين من السنة للدراسة بالمحظرة في حين يعودون إلى موطنهم للعمل باقي فصول السنة .
وقد عرف طلاب هذه المحظرة بالتفوق والنبوغ، بل إن طلابها كانوا دائماً من الناجحين الأوائل في امتحانات القضاة الموريتانيين، وكذلك المعهد العالي للدراسات والبحوث الإسلامية (الجامعة الإسلامية)، ومعهد ابن عباس سابقاً، كما أن بعض طلاب هذه المحظرة يعملون أساتذة في معهد تكوين العلماء .
وعرفت محظرة التيسير عبر تاريخها بغزارة علم شيوخها وسعة اطلاعهم، ولذلك كانوا جميعا شخصيات علمية مرجعية في البلاد .
الشيخ محمد الحسن الخديم
ويعتبر العلامة الشيخ محمد الحسن ولد أحمدو الخديم، شيخ مشايخ محظرة التيسير الحالي، أحد أبرز ستة علماء موريتانيين في العصر الحاضر، وهو عالم متبحر مشهود له بسعة العلم، كما أنه شاعر مجيد، وشخصية اجتماعية كبيرة في موريتانيا .
وكان هذا الشيخ قد رفض الذهاب للقاء رئيس البلاد الأسبق معاوية ولد الطايع عندما بعث إليه يطلب مجيئه إلى العاصمة نواكشوط للاجتماع به، وردد عبارة مالك العلم يؤتى ولا يأتي، كما رفض سنة 2005 توقيع قانون المسجد الذي أعدته الحكومة الموريتانية ساعتها مخافة أن يكون القانون قصد به الحد من حرية المساجد .
ويعتبر الشيخ محمد الحسن ولد أحمدو الخديم من أكثر العلماء الموريتانيين المعاصرين اهتماماً بالتأليف، وله عشرات المؤلفات في شتى حقول المعرفة .
وخلال الفترة الأخيرة بدأت محظرة التيسير دخول عالم النشر، فأسست دار التيسير للنشر والتوزيع التابعة للمحظرة، وقد صدر عنها حتى الآن أكثر من 60 مؤلفاً من بينها الجواهر على البصائر، والفوائد الكفيلة بمعرفة الوسيلة، وإرشاد الخلف لاتباع السلف، وإرشاد أهل العصر لإكرام ولاة الأمر، والجامع المحرر على نظم الدرر (شرح ألفية السيوطي في مصطلح الحديث)، والمترادف من ألفاظ القرآن، وديوان العلامة مولود بن الجواد، وسقاية الظمآن من آداب تلاوة القرآن وسلم المطالع لشرح الكوكب الساطع (شرح ألفية السيوطي في أصول الفقه)، وغيرها كثير، وقد طبع منها البعض خمس مرات مما يوحي بإقبال كبير على هذه الكتب .
لكن محظرة التيسير ليست مجرد جامعة علمية بعيدة بين رمال موريتانيا، بل بدأت خطواتها تمهيداً للتواصل مع طلبة العلم في جميع أنحاء العالم، وتوفير العناء عليهم عبر وسائط الاتصال الحديثة .
ويقول أبو محمد ولد محمد الحسن، وهو نجل شيخ المحظرة وعضو هيئة التدريس بها، إن المحظرة ستدخل خلال الفترة الوجيزة المقبلة عالم الرقمنة، وذلك بتوفير المواد التي تدرس بالمحاظر الموريتانية بالصوت والصورة لجميع الراغبين عبر شبكة الانترنيت، مؤكداً أن الدروس التي تقدمها المحظرة الآن عبر أسكايب لطلابها بالخارج لاقت نجاحاً كبيراً .
ويقول تدرس في هذه المحظرة كل العلوم الشرعية والعربية من دون استثناء، ويقوم بالتدريس طاقم متميز في طليعته شيخها العلامة المجدد الشيخ محمد الحسن ولد أحمدو الخديم . ويقوم هذا الطاقم بالتدريس على مدار أيام السنة وفي جميع الأوقات .
ويضيف أعتقد أن من أهم مميزات محظرة التيسير هي حرية الطالب في اختيار الفن الذي يدرس ومقدار الدرس اليومي، فالمحظرة تمنح طلابها الحرية المطلقة في الفن الذي يريدون دراسته وفي مقدار الدرس اليومي، وهو ما ينعكس إيجابياً على الكم المعرفي الذي يحصله الطالب في وقت قياسي وجيز في هذه المحظرة بالمقارنة مع غيرها من المحاظر، فالفن الذي يميل إليه الشخص دائما يكون استيعابه له واستفادته منه أكثر .
مناهج المحظرة
وحول المناهج التي تدرس في هذه المحظرة، يقول أبو محمد يتضمن منهاج المحظرة زيادة على تحفيظ القرآن الكريم، تدريس أزيد من مئة متن في مجالات القرآن وعلومه، والعقيدة وعلم الكلام، والحديث وعلومه، والسيرة النبوية، والأصول والقواعد، واللغة والأدب والعروض والقوافي، وغير ذلك .
وحول المدة الزمنية للطالب في هذه المحظرة يقول: لا يوجد تحديد نهائي للمدة الزمنية التي يقضيها طلاب المحظرة مع أن فترة 15 سنة فترة معتبرة حسب برنامج المحظرة، فمن الطلاب من يمكث سنة وسنتين ومنهم من يرتادها عدة سنوات من فترة إلى أخرى، ومنهم من يمكث فيها من عشر إلى خمس عشرة سنة وهي المدة المعتادة لإتقان جميع الفنون، ومنهم من قضوا فيها عشرين إلى ثلاثين سنة ومازالوا يواصلون تحصيلهم المعرفي ويقومون بأعباء التدريس والتأليف والبحث والتحقيق والنشر .
وحول الإضافة التي شكلتها هذه المحظرة للمحاظر الموريتانية يقول أبو محمد لا شك أن هناك الكثير من ملامح وشواهد التجديد في المحظرة تشكّل مادة غنية يمكن للدارسين والباحثين أن يجدوا فيها ما يروي نهمهم في البحث والتقصي عن الجديد والمستدرك في مجالات اهتماماتهم المتعددة .
ويختم أبو محمد حديثه بالقول إن محظرة التيسير تسعى بكل جهد ممكن للرقي بالتعليم المحظري في موريتانيا، وجعله أقرب وأدق في المناهج، كما تمضي في تخريج العلماء الذين ستكون عليهم مسؤولية بث العلم الذي منّ الله تبارك وتعالى عليهم به .