تتدفق شلالات الزمن في "وديان العبيد" لتخلق فصولا حقوقية وسياسية وتاريخية وفكرية، لكل منها مميزاته ومناخاته. إنها قصة ابَّيْليلْ وجرفونه: ذينك العاشقين اللذيْن سيجعلان من المثقف المبدع المختار بابتاح "كاتبا متنافرا بطبيعته، يكتب الحبَّ والسياسة في أسطر متتالية"، يضيف لها مِلحا وتوابل حارة من علم الاجتماع وحقوق الإنسان والدين والتاريخ.
معاناة كاتبنا أشد من معاناة البطلين، فهو يغوص في بحر من متناقضات مجتمع معقَّد بفعل تكوينته وجيناته وتاريخانيته، تتقاذفه أمواجه ليخرج بأفكار جزلة بعد تأمله في "ليل الصحراء الشّتوي الطويل".
لم يكن ابَّيْليل ولد امْباركْ إلا طفلا مسترقا، بائسا، منحوسا ومبتلى، يهيم في شقائه بين أترابه: أرقاء "وديان العبيد". كانت "أيامُ أطفال وِديان العبيد كدا متواصلا وجهدا جهيدا". إنها حياة العبيد كما شهدت عليها مجلدات الفلاسفة والمؤرخين، وكما رسمتها ريشة الزمن البشري الظالم.
ويمضي الكاتب، يضرب في الأرض، في كل أرجاء "وديان العبيد"، فيمر بالصّطّارة، ومائها الآسن، حيث يناقش الشباب الثائر، ضمن خلايا حركة الكادحين، كيفية تحريض المجتمع "على الثورة ضد الإقطاع". وداخل تلك المتاهات، وعلى ظهر خياله الرفراف، يصل عاصمة المناجم: فيذكرنا بـ"شهداء مجزرة الزويرات"، مؤكدا أنهم"همْ وحدهم من قدّموا لوحةً وطنية بدمائهم الزكية المختلطة، على أديم سفْح جبل المدينة، حتى أذابوا بدمائهم الطاهرة فوارق الطبقات التي يستغلها كل السياسيين عبر الأجيال اللاحقة"، وأنهم "هم وحدهم من كتب بذاك الأحمر القاني الساخن أن الوطن مرابع لا أشخاص، ومبادئ لا مصالح".
وبأسلوب شيق وشائق، وبعد التيَهان في معارك طاحنة مع صروف الدهر، سيصبح ابّيْليل وزيرا للبيئة في "مسرحية التوازنات" التي ستشقى بها موريتانيا ردحا من الزمن. لماذا البيئة بالذات؟ سؤال يعرف "النبلاء"، المسؤولون عن التعيين في حكومات "المنكب البرزخي"، تفاصيلَ الرد الشافي عليه.
كان على ابيليل، قبل وبعد التوزير، أن يحمل في لفائف دماغه حزمة من الاستفهامات: "هل كُتب علينا ـ معاشر الأرقّاء ـ الشقاء الأبدي، وأن نكون تبَعا للأسياد الذين يستغلون كل طاقاتنا، يأخذون ريْعَ الحقول التي نحن أحقُ بها منهم ثم يمنون علينا بقليل من الفتات، يتَسرَّى بعضهم بأمهاتنا دون أن يعترفوا بأبنائهم في جريمة تُحرِمُها الشريعة الإسلامية وتمْنعُها القوانين الدولية؟.. هل العبودية في هذه البلاد تتماشى مع العبودية الشرعية؟.. وهل توجد عبودية شرعية أصلا في ديننا الحنيف؟ وكيف لمسلم أن يتقبل أن دينه يقبل التفاوت بين البشر وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟".. إن الحيرة المفضية إلى نقاط الاستفهام جائحة مفهومة ومنطقية ومشروعة، تظل تطارد العبد في بلادنا إلى أن تدفن معه.
يأخذنا الكاتب الحصيف إلى سنوات التزوير الفظ عندما كانت "بطاقات التعريف وبطاقات الناخب تكتب بقلم الرصاص". وبلباقته المعتادة، يتحاشى القول بأنها كانت تكتب تارة بالرصاص نفسه، وتارات بالهراوات. ثم يعرج على الشحن العرقي، فيذكر ذات مساء "حين كان يسير في أحد الأزقة القريبة من مقر البلدية، وفجأة اعترضه مراهق يحمل سكينا بيده، يتطاير وجهه شررا كأنه ظفر بصيد ثمين، ولحسن الحظ أن كلمات قليلة نطقها بالحسانية شفعت له، ولولا ذلك لكان في عداد ضحايا الفتنة التي جابت البلاد".
تعطينا قصة "وديان العبيد" انطباعا حقيقيا بأن الكاتب حوْصَلَ، بكل موسوعية، تاريخنا السياسي، بانقلاباته السياسية-العسكرية، وانقلاباته الفكرية، وانقلاباته الاجتماعية التي التأمت كلها لتجعل ابيليل يصل إلى خلاصة مفادها أنه "لا مفرَّ من العودة إلى حاضنتي الاجتماعية"، بعد أن "عشتُ عقدين من الزمن في الخطب الحماسية المثالية". ثم يصل به التماهي مع المجتمع-الأم، وتصل به "الواقعية" البرغماتية، ويصل به الإحباط حد المشاركة، صياغة وقبولا، في الشعارات الأسطوانية المرحبة بـ"قائد المسيرة المظفرة"، ليعلن، مع الساكنة، أن "وديان العبيد يقفون صفا واحدا خلف فخامة الرئيس"، وأنهم "يشيدون بالإنجازات النوعية في عهد النمو والازدهار". إنها النهاية المأساوية لكل الحالمين في قارة تعودت على أن الحرية قيمة مكتسبة مرتبطة بقبول الأمر الواقع حسب الظلاميين، وأنها ليست فطرية مرتبطة بالوجود والكينونة كما تَوَهّمَ التنويريون.
إن قراءة قصة "وديان العبيد"، المطيّبة بعنبر شعر الكادح العملاق أحمدُّ ولد عبد القادر، تخول لصاحبها أن يتنفس الصعداء بعد ما ناء به فكره من رديء الكتابة المنتشرة هذه الأيام، ومن سفاسف الأسلوب الطاغي، في منابرنا، على الواجهة الإعلامية والنخبوية. كان فقط على مختاري المبدع الرزين، والعاتك الأريحي، أن يقول معي: "سامحينا، يا أمعاء العبيد!".