هذه الحلقة من مساري المهني، سأخصصها لنماذج من التهديدات الخطيرة التي تعرضت لها والتي نشير إلي أنها ظلت قيد الكتمان ولم تخرج عن المحيط الذي دارت فيه، نظرا لقناعتي بأن الصحفي عليه أن يعمل علي أن تكون الأخبار التي ينشر هي محط اهتمام الرأي العام وأن لا يتحول هو نفسه الي مادة إعلامية وأن عليه أن لا يهتم بما يقال عنه، بل عليه أن يحرص علي صدقية ما ينقل عنه ولذلك لم أفكر في نشر نماذج من مساري المهني إلا عندما قررت اعتزال الصحافة بصورة نهائية لاسباب سأعلنها في آخر ما سأنشر علي موقع "ديلول".
وهذه النماذج هي:
ـ التهديد الأول: بعد نشري لتحقيق عن دور الدعارة في نواكشوط، في جريدة الشعب 1987 والذي نجم عنه إصدار أمر من وزير الداخلية والإعلام حينها الرجل القوي في النظام جبريل ولد عبد الله للمدير العام حد امين ولد حادي بحظر الكتابة علي في الجريدة، استدعاني مدير الصياغة (المخابرات) في وزارة الداخلية وأبلغني بأن لديه أدلة تؤكد أن التحقيق من ورائه بعض المسؤولين بهدف تشويه سمعة بعض المسؤولين الآخرين، خاصة وزير الداخلية وهو ما أكدت له نفيه فهددني واتصل بالمدير الجهوي للأمن وطلب منه أمامي أن يرسل إليه عناصر لاستلام شخص خطير للتحقيق معه في موضوع سيخبره به وفعلا وصل 4 عناصر من الشرطة وبعد دخولهم طلب منهم الانتظار أمام مكتبه حتى يستدعيهم وأعاد اللحاح علي في أن أخبره بمن وراء الموضوع وسوف يطلق سراحي ويبقي الأمر سرا، فأكدت له أن الأمر مجرد تحقيق صحفي لا أهداف سياسية وراءه وفي النهاية سمح لي بمغادرة مكتبه لأفكر في الموضوع وسيستدعينني لاحقا وهو ما لم يحصل ولله الحمد.
ـ التهديد الثاني: علي أثر نشر نفس التحقيق، استدعتني سيدة من سيدات المجتمع حينها وزوجة لمسؤول كبير، علي علم بأنني عثرت علي صورتها في البوم الصور في احدي دور الدعارة، التي كتبت عنها وهددتني تهديدا صريحا بالتصفية في حال أفشيت قضيتها فأجبتها بأن تهديدها هذا كان يمكن أن يدفعني الي التشهير بها على أساسه وليس علي أساس عثوري علي صورتها، لكن شفع لها أن المهنية تفرض مني عدم كشف المعلومات المتعلقة بالأشخاص في موضوع التحقيق وعن الكشف عن الأماكن وعليها أن تطمئن لأن مهمتي من الموضوع انتهت عندما كتبت تحقيقي عن تطور ممارسة الدعارة في نواكشوط وأنها أصبحت مجالا للاستثمار وللنفوذ وأعطيت علي ذلك أدلة حقيقية فالباقي عمل السلطات السياسية والأمنية في البلد وأنت أقرب لهم مني.
ـ التهديد الثالث: سنة 1984، عندما كان مقر الوكالة غير بعيد من الرئاسة، التي كنت الصحفي المعتمد لديها من طرف الوكالة لتغطية نشاطاتها، حيث لاحظت توجه جميع أعضاء اللجنة العسكرية الي الرئاسة وكان ذلك مساء يوم عطلة فاستدعيت المصور جيبي جللو المكلف هو الآخر بتصوير جميع نشاطات الرئيس داخل وخارج البلاد، فتوجهنا علي أقدامنا الي بوابة الرئاسة التي يعرفنا حراسها لكثرة ترددنا عليها ودخلنا ولم نلاحظ أي نشاط في المكاتب فاقترح علي المصور العودة فرفضت لتأكدي من دخول السيارات إليها قبل قليل وذهبنا الي قصر سكن الرئيس، خلف المكاتب فلاحظنا أن سيارات أعضاء اللجنة موجودة في حديقته وبما أن القصر يتألف من عدة فلل بعضها مستقل عن الآخر، لم نحدد مكان تواجدهم وبقينا وقوفا حائرين عندها مر بنا صبي، عرفت فيما بعد من مشيته، أنه سيدي محمد ولد هيدالة، الذي يعرف المصور جيبي لأنه يصور العائلة الرئاسية، فقال لنا انتم تبحثون عن "بب" في تلك الدار مع أصحبه.
وعندما دخلنا الدار وجدنا جميع أبوابها مغلقة لأن الفترة فترة شتاء ووقفنا في فنائها عندها دخل عامل يحمل الكثير من كؤوس الشاي وفتح أحد الأبواب فانتهزنا الفرصة فدخلنا معه وكان الرئيس محمد خونا ولد هيدالة جالسا في الوسط بزيه التقليدي والباقين بعضهم بزيه المدني وبعضهم بزيه العسكري، فتفاجئوا بنا ونادي ولد هيدالة: "جيبي جيبي انتوم اخباركم" فبادرت أنا بالرد عليه بقولي: السيد الرئيس نحن نبحث عن الأخبار في قعر دار السيد الرئيس، التي لاحظنا جميع أعضاء اللجنة العسكرية يتوجهون إليها هذا المساء، فرد علي بقوله: "هوم ألاّ جايين ايسلم اعلي آن كنت مان اصحيح بي البرد ودعناكم الملآن".
وعند خروجنا خرج في أثرنا أحد أعضاء اللجنة العسكرية، فاستوقفني وقال لي بصوت صارم: "أسمع إذا سمعت عن هذا الاجتماع في نواكشوط فسأقطع لسانك أذهب ولا تلتفت وراءك".
ـ التهديد الرابع: كان من أحد المقربين من الرئيسة ختو بنت البخاري، وذلك في قاعة مباني مجلس الشيوخ عندما شاهدني ألتقط صورا لما يجري في القاعة أثناء وجود بنت البخاري فيها والتي أحضرتها إليها الشرطة بأمر من ولد محمد ازناكي شيخ اكجوجت، حيث هددني بأنواع التهديد في حال أخذت لها صورة ووصفني بجميع الأوصاف الدنيئة فاعتذرت له، لأنني اقدر بصدق مشاعره وأنني مكانه سأتصرف بنفس الأسلوب أو أعنف، فرد علي بأنه ينتظر نشري لأية صورة للرئيسة في موقع مفوضية نواكشوط للأنباء، حسب تعبيره، التي وصفني بأنني أحد شرطتها.
وقد كتبت تقريرا عن واقعة إحضار الشرطة لبنت البخاري الي مجلس الشيوخ وصفت فيه الحادثة بأن جميع أخلاق الرجولة والأعراف والقوانين تستنكرها وفي مساء نفس اليوم ذهبت إلي مقر حزب "عادل" حيث كان يعج محيطه بأنصاره أيام عزه وعند دخولي استقبلوني جميعا بالشكر علي ماكتبت وكان صاحبي من بين الحاضرين واعتذر لي الاستاذ محمد الأمين ولد الحلس الامين العام لهيئة ختو عن ما حصل مؤكدا أسفه عليه.
وبعد ذلك بفترة اتصل بي الزميل العزيز علي محمد عبد الله ممين وقال لي أن معه أحد الأصدقاء يريد صورا للاعتداء الذي قاده ولد يم علي منزل الرئيس سيدي ولد الشيخ عبد الله فقلت له أنها موجودة واتصل بي المعني، الذي كان متعجلا علي وجود الصور واتفقنا علي ان يأتيني حالا في منزلي وأوضحت له الطريقة التي يصلني بها وعندما فتحت عنه الباب فإذا به من هددني في مجلس الشيوخ، فلاحظت عليه أنه تفاجأ فرحبت به وسحبته الي داخل المنزل وكان علي اتصال دائم مع شخص يبدو من الحديث أنه في الخارج ومستعجل علي الصور فقال له إنه وجدهم وسوف يرسلهم له من أقرب "سيبير"، فقلت له أن لدي الانترنت ويسعدني أن تستغلها علي راحتك فقبل وقدمت له جهازي أرسل جميع الصور تلك اللحظة وودعني وصرنا أصدقاء ولم نبحث أبدا حادثة مجلس الشيوخ.
ـ التهديد الخامس: لم أبلغ به رسميا قبل وقوعه وهو الاعتداء علي في مسيرة FNDDقبل مفاوضات اتفاق دكار 2009 مع أنني شعرت به قبل وقعه وأتذكر أنني عندما وصلت مكان انطلاقة المسيرة من أمام المستشفي الوطني نصحني قيادي بارز في التكتل بعدم الاقتراب من الرئيس أحمد ولد داداه ولم أبال بذلك وأثناء المسيرة شاهدت احد مناصري التكتل يحرض علي بقوله أخرج عن مسيرتنا يا جاسوس إلي غير ذلك من العبارات.
وقبل الاعتداء بدقائق قليلة جدا عندما كنت أحاول أخذ آخر صور التقطهم لقادة المعارضة، نصحني قيادي بارز في التحالف الشعبي التقدمي بالحذر.
وفي هذا الإطار أذكر بأنني ذهبت أنا ومحمد محمود ولد ابو المعالي إلي والد قائد عملية الاعتداء علي وأكدنا له أن يطمئنه علي أنني لن أكشفه لكن عليه أن لا يعود لمثل هذه الأعمال لأنها تتنافي مع أخلاقيات النضال الشريفة وكان ممتنا لنا جدا والمعني اليوم من أعز الناس وأقربهم إلي وقد فضلت نصيحته كما لو كان أحد أبنائي علي أن أتورط أنا وهو في متاهات تصفية النظام لحساباته مع المعارضة.
ـ التهديد السادس: كان من مقرب من أحد الوزراء في حكومة ولد محمد لغظف، حيث هددني بالقتل بسبب كتابة عن قطاع قريبه الوزير وقد أخذ تهديده لي محمل الجد الا أنني فضلت معالجته بعيدا عن الأضواء وعن الصحافة وعن العدالة فاتصلت بأصدقاء لي من النواب بعضهم مقرب اسريا من الوزير فعملوا علي تسوية الموضوع والتزم الوزير بأمر قريبه.
ـ التهديد السابع: كان من مقرب من مدير عام احدي مؤسسات الدولة التي كتبت عنها، حيث اتصل بي وعرفني علي نفسه وعلاقاته بالمدير وتوعدني، لم ابال بالآمر بداية لان مثل هذه الاتصالات أصبحت روتينية بالنسبة لجميع الصحفيين وبعد أن تأكدت من جدية الموضوع وبأن المدير العام وراءه وبعد أن فرض علي المعني لسحب تهديده الاعتذار عن ما كتبت والكشف عن مصادري ، عندها أبلغت نقيب الصحفيين الحسين ولد أمدو، الذي كتب رسالة شكوي بالموضوع وبأرقام هواتف المعني وتواريخ مكالماته والأدلة علي تهديده إلي وكيل الجمهورية في محكمة نواكشوط، الذي أحال بدوره القضية إلي الشرطة القضائية للتحقيق، بعدها انقطعت عني اتصالات المعني ولا أدري مسار التحقيق لأني لم أهتم به.
أما الاتصالات بالهاتف والرسائل بالبريد الالكتروني، بجميع أنواع العبارات فهذه بالعشرات يوميا.
ورغم اختلاف الأنظمة والأزمنة والشخصيات، فقد كان العامل المشترك بين هذه التهديدات هو نشر الحقائق التي لا يريد أصحابها، سواء كانوا أنظمة أو هيئات أو أشخاص، أن يطلع عليها ورفضي أنا للرقابة لتعارضها مع الحرية التي قادني التوق إليها إلي اختيار مهنة الصحافة عن باقي المهن، خاصة مهنة أجدادي وهي التجارة في السنغال والتي لا تحتاج إلي كثير من التعلم، لابد للصحافة منه وقد كان حظي منه القليل جدا، لأن أكبر إخوتي سحبني من الصف الثالث ابتدائي في مدرسة السوق في نواكشوط 1967 وذهب بي الي البادية وفي صباح أول يوم فيها أخذ محفظتي وأشعل فيها النار بما فيها من الكتب والتي منها الكثير من القصص التي كان المركز المصري يهديها إلي بحكم علاقتي الأسرية مع الأديب الكبير احمد ولد عبد القادر، كما أحرق من ضمن ما أحرق مصورة كان قد قدمها لي اللبناني حجار وقد ولد لدي حرق محفظتي وما فيها، تعاطف مع الكتب وكره إحراقها وتعلق بأدوات التصوير.
وكان رفضي للرقابة من أسباب حرماني من المسؤوليات ولذا لم يسمح لي أبدا بإجازة نشر الأخبار طيلة عملي في الوكالة لأن الشرطة في ذلك هو القدرة علي القص لا علي المهنية ولا علي الموضوعية ولا علي مراعاة حق الناس في الإعلام.
وكان هذا الحرمان من دواعي اندفاعي للعمل في الإعلام المستقل منذ بداية نشأته كل ما وجدت لذلك سبيلا، مشترطا في ذلك الحرية في النشر وعدم الرقابة دون الاهتمام بالجوانب المادية، لذلك، كما ذكرت في الخلقة الثانية عملت مع اباه ولد السالك بمبلغ خمسة آلاف أوقية ورفضت 35 ألف أوقية في البشري.
كما قبلت التعاون مع وكالة نواكشوط للأخبار بعد تأسيسها 2007 بالاتفاق مع مديرها الزميل العزيز محمد محمود ولد أبو المعالي علي شرط واحد هو أنني لا تصادر موادي الإعلامية وقد أوفي بالتزامه، رغم ما سببت له من مشاكل لشدة إفراطي في استغلال جو الحرية الذي توفر لي بدون حدود لأول مرة في حياتي وأتذكر في هذا الإطار أنني رفضت لشيخنا ولد النني وهو قنصل عام في دكار نشر خبر عن مفاوضات دكار يتعلق بموقف الوفد الممثل لولد عبد العزيز ما لم أجد موقف وفد المعارضة من نفس الموضوع وعندما اتصل بالمدير ولد أبو المعالي، قال له مادام ماموني قد رفضه لا يمكنني نشره وقبل بالرفض رغم أنه الملاك للوكالة وهنا لا يسعني إلا أن أشهد لله بأن ولد النني لم يتدخل لي أبدا في النشر ويناقش معي القضايا كقارئ.
وفي هذا المجال أذكر أنني بعد نشري لموضوع لقاء ولد عبد العزيز مع الأغلبية البرلمانية والذي كان السبب المباشر لفصلي التعسفي من العمل، طلب مني شخص مهم حذف اسم السعودية من الموضوع وإبداله بعبارة "دولة نتحفظ علي اسمها أو اية عبارة أختارها" فرفضت لان ذلك يعتبر حرمانا للقارئ من معرفة الحقيقة، كما سبق أن رفضت لجميع قادة تكتل القوي الديمقراطية بما فيهم الرئيس احمد ولد داداه حذف بعض الفقرات في مقابلتي مع ولد داداه والتي سببت لي ما سببت من اعتداء ومشاكل.
وقد خلق لي هذا الكفر بالرقابة الكثير من المشاكل فكان وراء حرماني من المسؤوليات طيلة 36 سنة وكان سبب جميع التهديدات التي تعرضت لها وكان وراء فصلي التعسفي من العمل ووراء رفض أكثرية أصحاب المؤسسات الإعلامية المستقلة للتعامل معي بحجة أنني أرفض الرقابة وسوف اسبب لهم مشاكل مع النظام، كما منع موقع "ديلول" منذ أطلقته قبل 15 شهرا من أبسط اشتراك أو عون، حيث لم أتلق علي الرد علي عشرات الرسائل التي كتبت للمؤسسات، إلا ردا واحدا قبل اسبوعين من هيئة "سنيم" الخيرية يتضمن دعما ماديا قدرره 20 ألف أوقية، قررت عدم استلام المبلغ لأنه جاء بعد قراري باعتزال الصحافة.
ومع كل هذا لست نادما علي أي موقف اتخذته في مساري المهني ولو عاد التاريخ نفسه لم أغير مواقفي.