محمد الأمين ولد الكتاب
إن ما يجري اليوم أمام أعيننا من عنف و احتراب و إراقة للدماء في العالم العربي و إفريقيا ، مرده إلى مجموعة من العوامل لعل من أبرزها :
- ظاهرة اللبرالية المتوحشة المعولمة و مطامع الدول الغربية المتنفذة في السيطرة على خيرات ومقدرات الدول العربية و الإفريقية ، و استتباعها.
- الاستبداد السياسي المفرط و غياب الديمقراطية و كبت الحريات.
- انتشار الفكر الأصولي الظلامي بواسطة شبكة الفضائيات ذات الوسائل الوافرة والرامية إلى الشحن الإيديولوجي و إذكاء الصراعات المذهبية والتناقضات الطائفية المقيتة.
- تجبر الكيان الصهيوني ومضيه في احتلال الأراضي العربية ورفعه لوتيرة تهويد الأماكن المقدسة بالقدس الشريف مع دعم الولايات المتحدة و الغرب لهكذا سياسة.
- الإخفاقات الذريعة التي منيت بها كل الإيديولوجيات التي تبنتها النخب العربية و الإفريقية لإقامة مشاريع مجتمعات متقدمة و تنافسية.
- الفقر المدقع الناجم عن فساد الساسة و إهدارهم لإمكانات و موارد بلدانهم.
ونتيجة لتضافر هذه العوامل، تم تمزيق الصومال و العراق و السودان و سوريا و ليبيا ، و ها هو اليمن يتمزق أمام أعيننا ، و هاهي ألسنة اللهب تمتد إلى مصر و البحرين و السعودية و الجزائر. ما قاد إلى تراجع و نكوص المشاريع الوحدوية مثل مجلس التعاون لدول الخليج و الإتحاد المغاربي الذي بدأت بلدانه تشيد حواجز بينها لمنع تسرب الإرهابيين من بعضها إلى البعض ! كما تم على الصعيد الإفريقي تمزيق مالي و تهديد أتشاد و النيجر ونيجيريا والكونغو ووسط إفريقيا و الحبل على الجرار.
فقط ثلاث بلدان على مستوى شبه منطقتنا استطاعت أن تحافظ على قسط معتبر من الاستقرار و الأمن و التماسك. و هي السنغال و المغرب و موريتانيا. فرغم قيام اضطرابات بين الفينة و الأخرى في السنغال و رغم اكتشاف خلايا إرهابية نائمة من حين لآخر في المغرب و رغم موجة السطو و الاختطاف و الاغتصاب الغير مسبوقة بموريتانيا، فإ ن هذه البلدان ما زالت تتمتع على وجه العموم بالأمن و الاستقرار و السلم الاجتماعي، و مازالت تقف في وجه انسياح التطرف و الإرهاب داخل أراضها.
لكن إلى متى ستستمر هذه الوضعية ؟ ذلك ما ليس بالإمكان معرفته على وجه الدقة في الوقت الراهن. وكل ما الإمكان هو محاولة تصور الطرق التي قد تكون كفيلة بدرء مخاطر الإرهاب و تداعياته المدمرة.
و الذي نحن بصدده في هذا المقام هو إلقاء بعض الأضواء على المخاطر التي تهدد أمن و سلامة و استقرار موريتانيا و التنويه بالجهود التي بذلت من أجل تقوية الوسائل الدفاعية للبلاد و تحصين حدودها و إحكام المراقبة على منافذها . ثم إبراز الطرق و الوسائل الكفيلة بتقوية الأمن الداخلي و الوقوف في وجه تمدد الإرهاب وانسياحه إلى داخل الوطن.
و رغم أن البلاد تعرف اليوم، كما ذكرنا، تدهورا كبيرا لجهة الأوضاع الأمنية. إلا أن ثمة جهودا كبيرة جديرة بالتنويه، ترمي إلى تحصين حدود البلاد و مواجهة التنظيمات الإرهابية التي تعيث فسادا في شبه منطقتنا. و ذلك نتيجة لسياسات حازمة، محكمة و فعالة تمثلت أساسا في إعادة تنظيم و تحديث و تجهيز و تسليح الجيش الوطني الذي أصبح يحسب له حسابه على مستوى شبه المنطقة و الذي نال تقدير و احترام بلدان الجوار و الشركاء الأجانب ، و الذي باتت المنظمات الإرهابية تضعه في الحسبان. و آية ذلك نفي منظمة أنصار الإسلام منذ يومين لتصريح نسب إليها مفاده أنها تزمع مهاجمة التراب الموريتاني. و لا ريب أن إحجام المنظمات الإرهابية الملحوظ عن مواجهة الجيش الموريتاني ناجم عن إدراكها لما أضحى هذا الجيش يتوفر عليه من سلاح و عتاد و دربة ، إضافة إلى اعتقادها الذي له ما يبرره أن موريتانيا لا تسعى إلى أكثر من الدفاع عن حوزة أراضيا و سلامة مواطنيها.و لا تهدف إلى الدخول في حرب أو نزاع مع أي كان.
لكن هل هذا كاف لدرء مخاطر موجة الغلو و التشدد و التغول؟ و ما تقود إليه من اصطراع و افتتان و احتراب؟
الواقع أن هذا المجهود، على أهميته، غير كاف لوحده وغير كفيل بمفرده أن يسد الطريق في وجه مشاريع و أهداف الغلاة المتشددين و أطماع البلدان المتنفذة الساعية إلى الهيمنة و الاستتباع وأجندات قوى الشر الشيطانية من صهيونية وماسونية و إلحادية.
فمواجهة هذه القوى الهدامة تتطلب إضافة إلى اتخاذ الترتيبات العسكرية الميدانية بلورة استراتيجيات ممنهجة شاملة و متعددة الأبعاد.
فعلى الصعيد الفكري و الإيديولوجي: يلزم التصدي بكل الوسائل المتاحة للفكر الأصولي الظلامي المتطرف الداعي إلى التزمت و التضييق و التكفير و المناهض للوسطية و التسامح و الانفتاح و الذي نشهد اليوم تأثيره المأساوي على العديد من البلدان الإسلامية و العربية بما فيها تلك التي بلورته و احتضنته و مولت نشره و انسياحه حيث انقلب السحر على الساحر كما يقال و أكلت الثعابين مغذيها و مروضها الذي انطبق عليه المثل العربي : " يداك أوكتا و فوك نفخ" ، "فلا هدى الله قيسا من ضلالتها و لا لعا لبني ذكوان إذ عثروا" كما قال الشاعر !!.
وقد يتم الوقوف في وجه المد الأصولي التكفيري في بلادنا و- في غيرها - عن طريق توسيع نطاق تدريس الوسطية الإسلامية و توطيد العقلانية و الروح النقدية من خلال تدريس الفلسفة و المنطق و العلوم الدقيقة و الرياضيات . مع الوقوف الحازم عن طريق المحاججة و الإقناع لا عن طريق القمع في وجه الإلحاد و الهرطقة و التهور و الاستهتار بقيم البلاد مثلها و ثوابتها.
و على الصعيد السياسي و المؤسسي: فإن من اللازم و الملح العمل دون تأخر ولا مواربة على تقوية الجبهة الداخلية للبلاد من خلال إقامة حوار جاد و بناء و نزيه بين كل الفر قاء السياسيين المتواجدين على الحلبة الوطنية ، و كذا إشراك كل القوى الحية من مجتمع مدني و شركاء اجتماعيين و فاعلين اقتصاديين، في صياغة مصير الوطن و إقامة مشروع مجتمع يرى فيه الكل ذاته.
و على الصعيد الاجتماعي: فلا بد من تكثيف الجهود الرامية إلى توطيد الوحدة بين كل مكونات النسيج الاجتماعي الموريتاني و تعزيز التعايش و الانسجام بين هذه المكونات من خلال تحقيق العدالة و المساواة و الندية. ما يستلزم القضاء التام على كل مخلفات الاسترقاق و كل مظاهر الدونية و أشكال الإقصاء و التهميش لأية شريحة من شرائح المجتمع.على أن تصاحب هذا التوجه عزيمة فولاذية حازمة لمواجهة الحركات المتطرفة الساعية إلى بث الفرقة و الشقاق و الكراهية و العداء بين مختلف فصائل و شرائح الشعب الموريتاني برعاية و مباركة من الدوائر الصهيونية و الماسونية والكنسية الدولية المتذرعة بالدفاع عن الحقوق الإنسانية وصولا إلى تحقيق أجنداتها الخبيثة.
على الصعيد الاستراتجي : ينبغي أن يستأنس البلد بما يجري في البلدان الأخرى في ما يتصل ببلورة رؤية مستقبلية لسيرورتها نحو مشاريع مجتمعات ترتضيها و ترضيها. فلم يعد من الملائم اعتماد سياسات تقوم على التلقائية و العفوية و الارتجال . بل أضحى ضروريا، اليوم أكثر من أي وقت مضى ، إنشاء و تفعيل آليات تناط بها مهام التفكير الإستراتيجي و الاستشراف المستقبلي ووضع منهجيات للتسيير الإستباقي الذي لا يستغني عنه صناع القرار في تمثل و انتهاج السبل الأسلم و الأصلح للمضي ببلدانهم إلى بر الأمان في سياق تعصف به الأعاصير الهوجاء المدمرة.
و خلاصة القول فإن الجهود المحمودة و الجديرة بالتنويه، في نظرنا، التي بذلتها سلطات البلاد من أجل مواجهة الإرهاب على الصعيد العسكري هي غير كافية. إذ أن الإرهاب إخطبوط متعدد الأذرع تطال أضراره شتى المناحي و المجالات، و من ثم فلا بد أن تكتسي مواجهته، هي الأخرى، مختلف المظاهر و الأساليب و الأبعاد.