في صباح ودود معتدل الحرارة في نواكشوط، على غير عادة يوليو أقلعت طائرة "شنقيط" الرئاسية، وعلى متنها الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني ووفد يرافقه، لا نحو عاصمة، بل نحو لحظة فارقة من لحظات التاريخ الوطني.
واشنطن عاصمة القرار العالمي والمتحكمة في مصائر دوله، وصاحبة اليد الطولى في رسم خطوط ونسخ خيوط البوليتيكا الدولية، فتحت بوابتها لخطى موريتانية واثقة، قادمة من بلدٍ يختزن في رماله عبق المرابطين ووهج الشمس.
لم تكن الزيارة إلى الولايات المتحدة مجرد موعد بروتوكولي آخر في أجندة الرئيس، بل كانت ارتقاء آخر بالسقف السياسي، وتدشينًا لأفق جديد في علاقات نواكشوط بالعالم. لقد حمل غزواني في حقيبته صدى وطن يريد أن يُرى بعيون جديدة، وأن يُسمع بصوت يليق بحاضره، وحضارة أجداده، وطموح أجياله.
خاطب غزواني الرئيس ترامب بلغة الواثق المحترِم المحترَم لا الخاضع، مستعرضًا إمكانيات بلادنا، ومقدما بطاقة في أطلس العلاقات الدولية عن آفاقها الاقتصادية، وعن ما حققته من ترسيخ للاستقرار وتكريسٍ لثقافة الحوار، ومجابهةٍ للتحديات الأمنية بمنطق الجمع بين التنمية والأمن. وبلغ الخطاب ذروة إنسانيته حين انحنى الغزواني بكلماته احترامًا لصمود أهل غزة، مستصرخا ضمير العالم أن يرفع الظلم عن شعب يُذبح بلا انقطاع، مؤكدا أن موريتانيا ستظل وفية لفلسطين، ما بقي على هذه الأرض نبض عربي ودمٌ حرّ.
في العاصمة الأمريكية، لم يضِع غزواني وقته بل انصرف إلى جوهر الزيارة: لقاءات حثيثة مع الشركاء الاقتصاديين، وعروض جادّة للاستثمار في بلد يفتح ذراعيه للأفكار لا للهيمنة، للمال المنتج لا المال المشروط. تحدث إليهم عن شمس موريتانيا التي لا تغيب، وعن معادنها وسواحلها، وعن شعب يتوق للعمل لا للإعانات، ويبحث عن شركاء لا عن أوصياء.
ولم يغفل الرئيس في زيارته عن أبنائه في المهجر، فقد عقد لقاءً أريحيا - بشهادة أفراد تظاهروا أمام مقر إقامته - مع الجالية الموريتانية في الولايات المتحدة، استمع إليهم لا كحاكم، بل كأخ وأب، وطمأنهم أن الوطن يتسع للجميع، وأن موريتانيا تعود إليهم كما يعودون إليها. دعاهم إلى المساهمة في بنائه، وقال بصراحة: "لا فضل لمَن بقي، ولا نقص في مَن غاب.. أنتم من الوطن، وبكم يُبنى".
لم يقص غزواني أحدا يرغب في حضور اللقاء، الصديق الداه يعقوب كان يحمل لافتة ضد الزيارة، وبعد ساعات من الوقفة الرمزية التي قام بها الصديق رفقة حوالي العشرة من زملائه، كان يجلس في الصف الأول من محاوري الرئيس، وكان صدر الرئيس واسعا وأذنه مصغية لكل أبناء وطنه.
لم يكن غزواني المنصت الوحيد في الزيارة، فقد بدت واشنطن التي يحكمها ترامب الغرائبي، رغم جبروتها، مُصغية، كأنها تكتشف بلدًا ظل نقيا وسط ضجيج الصراعات، ومتماسكا وسط انهدام الجدران من حوله. فموريتانيا التي لم ترتهن لحلف، ولم تتورط في دم، والتي ظلت أبوابها مفتوحة لكل شريف ومشروع نافع، تستحق اليوم أن تُعامل بما يليق بثباتها في زمن الانكسار.
أما غزواني، فكان في زيارته هذه، كما هو كل مرة، رجل دولة بحق، لا يطلب عطايا، بل يبني شراكات. يقدّم بلاده بوجهها الواقعي المتفائل، لا يجمّل ولا يُخفي، لكنه يقنع بأن موريتانيا قادرة، إذا وجدت الشريك الصادق، أن تكون جسراً بين إفريقيا والعالم، وأن تكون مرفأ أمان في محيط هائج.
هي زيارة لم تكن في ظاهرها أكثر من لقاءات واجتماعات، لكنها في عمقها رسمٌ جديد لصورة موريتانيا على خريطة العالم، وخطوة أخرى في مسيرة استعادة الذات الوطنية، لا على مستوى الداخل فقط، بل في عيون الخارج الذي كثيرًا ما أساء الفهم أو تجاهل الحضور.
ورغم الأكاذيب التي بثت حوالي الزيارة، عن تطبيع أظل زمنه، وعن وباء ووبال وثبور، وعظائم أمور، مضى غزواني للذي يليق به، وكان الحاكم المثقف الرصين الدبلوماسي العاض بالنواجذ على ضوابط الأخلاق السياسية، التي عليها تنبي موريتانيا المعاصرة.
يعود غزواني؛ وبيده مفاتيح لمستقبلٍ يتشكل، وفعاله تجسيد ليقين أن بط بلادنا إذا مضت في درب الثقة والبناء، ستقف ذات يوم على رصيف التاريخ، وقد كُتب عليها: "من هنا مرّت موريتانيا نحو العالم."