بعد ليلة هادئة قد لمعت نجومها الذهبية، وخشعت فيها كل الأصوات اللهم ما كان من صوت أطيط الرحل وهي تحتك بسنام البعير، أو أصوات متقطعة أسمعها لأبوام تنبه بنعيبها كل راكب قد غزاه النعاس
أتجه نحو نار تخترق مع الفجر هذا الظلام الدامس، ليتني رأيتها قبل الفجر، هي نار قد تلوى بجانبها إنسان، لا بد أن هذا الرجل بعضلاته المفتولة وشعر رأسه المخشوشن له قصة، يبدو أنه عبد من عبيد أسياد الصحراء لقد عاش كما يعيش الحيوان، أعلم أن العبيد رغم ما يقاسون من حياة الرق يعلمون علم اليقين كل ما يمر من ضوال الإبل والغنم، عبيد الصحراء هم وحوش في الحياة، ترى كيف يرقد بجانب هذا اللهيب، ياله من إنسان لم يذق طعم الحرية في يوم من الأيام، ولم يهب عليه نسيم الكرامة، ترى كيف يعيش في هذا الثوب المشقق من جهة الإبط والظهر، يا إلهي!! كيف تم تسخير هذا العبد لسيده، أما فكر يوما من الأيام في الهروب من هذا الجحيم، لم لا يبحث عن عمل يناسب كرامته كإنسان، أم أن السيد قد علمه ـ كما يقول كل الأسياد ـ أن الجنة تحت قدمه، وسيرضى الله عنه إن أطاعه، ويكفيه من هذه الدنيا أن يعيش على سور أسياده وبقايا ملابسهم!! لم يفكر يوما في تنظيف نفسه وثيابه، تفوح منه رائحة العرق المتراكم، ودخان اللهيب المتلاطم، يا سبحان الله .. الإنسان بطبيعته يطمح للحرية، الإنسان الصحراوي شديد بطبعه، وللصحراء علاقة غامضة بالخشونة والكرامة، هكذا ينبغي أن يكون إنسان هذه الطبيعة متحررا متجبرا رافضا للاستسلام، لماذا يبقى أقوام آخرون ـ مثل هذا العبد ـ إذا لمح لهم أسيادهم بالحرية بكوا كما وقع مع الأمة "اتمرزْكنْتْ" التي سمع الحي عويلها على سيدها يوم أن أعتقها بعد كفارة ظهار وقعت له مع زوجته، ولكنه أعاد عبوديتها بعد إلحاحها الشديد، الإنسان هو من يحدد المكان الذي يعيش، عجبت لأقوام فضلوا أن يعيشوا مع الحيوانات ويعيش أسيادهم في خيم صوفية المزركشة أسيادهم يتنعمون وهم يسهرون على حيواناتهم. .
وبينما كنت أفكر في مصير هذا العبد إذ استيقظ بعصاه التي عقدها في ساعده بسلك رقيق وحاد، رأسها الآخر غليظ شديد تنذر بأن الرجل جاهز للمواجهة مع كل أعداء أسياده، سلمت عليه فرد علي السلام بأدب تصحبه خشونة في الصوت، سألني متفائلا : "عن ماذا لا تسألون؟ ومن أي الأهالي أنتم؟" أجبته أنا رجل قادم من بلاد "العُقُل" البعيدة، أبحث عن إبل تاهت في الصحراء منذ سنين، يجيب العبد وقد ملأ عظم شاة من التبغ وأوقده بشهاب وأطلق أسلاكا من الدخان: أعتقد أن كل ضوال الإبل موجودة ولكن في "حاسي آكْويديرْ" الواقع على بعد يومين للبعير السريع، اليوم ستشرب معنا الشاي وتسأل هذا السيد أنا الآن حان موعد سفري في مهمة لسيدي، حيث سأحمل هدية إلى أحد الشيوخ الروحيين حتى يستغيث لنا فنغاث بالمطر المتأخر، ـ قاطعته ـ أنت إذن ترعى الغنم، يجيب بصوت مبحوح : لا الغنم ترعاها زوجتي هذه البطلة التي تشمر عن ساعدها وتحزم ابنها الرضيع على ظهرها في الصباح، وتتحدى أشعة الشمس حتى تروح تتبع آخر شاة من الغنم.
كنت أفكر في أن أحرض هذا الرجل على سيده وخشيت أن يستيقظ السيد على الحديث الذي دار بيننا وانسحبت من الخيمة المضروبة، كان تفكيري أنني عبد تماما مثل هذا الرجل، ولكن هذا العبد قد رضي لنفسه بذلك، بينما أنا أجبرت على أن أكون عبدا لأصهاري الذين لا يسألون عني، يا أسفي على زوجتي التي ربما تشتاق إلي ولكنها تستحي من أن تظهر ذلك، تستحي من أن تسأل أصهارها عن مكان ابنهم المفقود منذ شهور، ما هو مصيرها حقا إنها حزينة علي، وأشد من ذلك كله أمي التي لم تكن ترغب أصلا في هذه الرحلة..
وأنزل عن بعيري تحت أيكة مظللة في "آفطوط" سأستريح هنا يوما كاملا، سوف أقيم شايي برخاوة، سوف أفكر في طريقة تنجيني من بطش هذا السيد الذي سمعني أتحدث عن هروب العبيد من قبضة السلاسل، سوف أستقر ساعات حتى أصل إلى محطة من محطات البحث عن إبل الأصهار.