في بلد تنهار فيه القيم، وتتراكم الأزمات، وتترهل " البنى التحتية"، وتختفي المياه والكهرباء.. يصبح من المنطقي، بل من الضروري، فتح تحقيقات جادة، لا لمجرد ملء الفراغ الإداري، بل لوقف هذا الانحدار الشامل الذي يطال مفاصل الدولة.
لكن في موريتانيا، وبدلا من وضع اليد على الخلل ومحاسبة المقصرين، اختارت إحدى الوزارات المركزية فتح تحقيق رسمي معمّق.. يتعلق بـ"جذع شجرة" في مهرجان بالداخل!
التحقيق الذي أعلنت عنه وزارة البيئة واستنفرت له شرطتها، بحسب بيانها الرسمي الذي وجهته للرأي العام، لم يكن بسبب تسرب إشعاعي من مفاعل نووي، فقط، كان في قضية "جذع"، مما قد يبشر بتحول استراتيجي مهم في اهتمام وزارة البيىة التي ظلت حتى وقت قريب تنصب معظم اهتماماتها على ملاحقة وتغريم صغار باعة الأكياس البلاستيكية من البسطاء..
صحيح أنه في غياب الأهداف الكبرى، تصبح التفاصيل البسيطة بطولات رسمية، وتتحول الأوراق الإدارية إلى مسرحيات خالية من أي معنى، وهكذا، في مشهد جديد، تُستنفر أجهزة الدولة لحماية البيروقراطية من الفراغ.
ومع تنامي شغف بعض المؤسسات بالاستعراض، وعجز الكثير من الوزراء عن الابتكار، يكون الاستنساخ أقصر وسيلة لإثبات الوجود، مما قد يحول " اليقظة الرمزية" إلى عدوى موسمية تنتقل من وزارة إلى أخرى، فيفرغ "التحقيق" من مضمونه، وبحول إلى طقس إداري، لا علاقة له بالمحاسبة أو الإصلاح.
ولنفس الاسباب؛ كما فتحت وزارة البيئة تحقيقها، لا مانع أن تبادر وزارة النقل بفتح تحقيق أعمق وأوسع ضد سائق رفض دفع "سرفيس أبيي"، بوصفه تهديدا للأمن الحضري.
وتشكل وزارة التعليم لجنة طوارئ لدراسة تأثر حذاء معلم بغبار طباشير قد تكون مغشوشة.
أما وزارة الشؤون الإسلامية والتعليم الأصلي، فقد تفتح بالتعاون معا "هيئاتها" تحقيقا دينيا موسعا حول موضوعين في غاية الأهمية: أولهما احتمال وجود خطأ مطبعي في بيان لجنة ما، واحتمال أن الامر قد لا يكون صدفة.. أما الثاني فحول مشروعية تسمية المواليد بأسماء أماكن العبادات أو الأسواق الشعبية.
أما وزارة الثقافة والفنون، فلتشعب اختصاصها واهتماماتها؛ فغير مستبعد أن تفتح تحقيقا مهيبا وعميقا ومهما.. حول مدى احترام لافتة المهرجان المعلقة خلف "الجذع" لدرجات الألوان المعتمدة في البصمة البصرية، وزاوية الإضاءة المثلى، وربما تستنجد بخبراء دوليين لفك شفرة الضوء المنكسر أو المنعكس على جذع الشجرة. وإذا تصاعد الجدل أكثر وبلغ ذروته، فقد تستدعي خبراء من "دائرة التناغم البصري" للبت فيما إذا كانت ألوان يافطة المهرجان تحدث خللا نفسيا للمارة، أو تتعارض مع المزاج العام، أو تؤثر على تنفس وشعور القطط الشاردة في الجوار.
المسرحية الإدارية متعددة الفصول هذه؛ قابلة للاستمرار والتطور، فبعد أن يطوى ملف الجذع وتغلق أوراقه بحزم إداري، يمكن أن تعيد وزارة البيئة الكرة من جديد، وتفتح تحقيقا أكثر دقة وشمولية... حول زقزقة سمعت فجرا من داخل شجرة؟ هل كانت لعصفور؟ أم لعصفورة؟.
وهكذا، في بلدٍ يركض فيه المواطن خلف جرعة دواء، فيصطدم ببيانٍ حكومي، ويبحث عن قطرة ماء فيجد قرارا وزاريا، ويتجه صوب مدرسة ليصادف كرسيا مائلا وجدارا متآكلا وطبشورا مغشوشا؛ لا يبقى في هذا المشهد العبثي سوى "جذع" شجرة، نال حظه من الاهتمام الرسمي، وتحول إلى محور تحقيق وطني استثنائي، وخص ببيان توضيحي موجه للرأي العام، وكأنه الحادثة الأهم في سياق الانهيارات المتوالية.