زحف التشيع إلى موريتانيا عبر بوابات التأثير الديني والإعلامي الإيراني الموجه إلى أفريقيا قضية مطروحة منذ سنوات، ويختلف حولها المتابعون بين من يعتبر أن الأمر لا يعدو كونه محبة بريئة لآل البيت جبل عليها الموريتانيون لكنها مغلفة بالمعتقد السني الراسخ، وبين من يعتبر أن إيران تمكنت بالفعل، عبر المال، من تحويل هذه المحبة البريئة إلى تشيع حقيقي لآلاف الموريتانيين.
وبالنظر للصراع الذي تخوضه إيران الشيعية مع سنة الخليج والذي زاده الاتفاق الغربي الإيراني حول الملف النووي اشتعالا ونشاطا، فإن الزحف الشيعي الإيراني نحو موريتانيا بات أمرا يثير قلق دول الخليج عموما. وهو القلق الذي سبق أن أظهرته برقيات للسفارة السعودية في نواكشوط تناولت هذه القضية وسربها موقع «ويكيليكس» قبل أيام.
مكالمة وسب للصحابة
جاءت مكالمة أجرتها مؤخرا سيدة موريتانية تدعى أم لمنين مع قناة «فدك» الشيعية لتظهر خطورة الزحف الشيعي نحو موريتانيا.
فقد سبت هذه الموريتانية مباشرة، عبر الأثير، مذهب السنة وسبت المذهب المالكي بالذات مؤكدة «أن مذهب الشيعة هو المذهب الصحيح، وأن مذهب الإمام مالك لا يصلح لشيء».
وقد حرك هذا السب هواجس الشيخ المستضاف في قناة «فدك»، الذي لقن الموريتانية المتصلة عبر الأثير شهادة «أن أبا بكر وعمر وعثمان وعائشة وحفصة في النار».
وأثارت المكالمة حفيظة أوساط كثيرة في موريتانيا وأسالت على شبكات التواصل آلاف التدوينات والتغريدات المطالبة بقطع العلاقات مع إيران ورقابة المد الشيعي.
حمالة الحطب
وقد وصف محمد الأمين الفاضل أنشط المدونين الموريتانيين على الفيسبوك مكالمة قناة «فدك» بأنها كانت «مكالمة صادمة لأنها جاءت في يوم رمضاني من (حمالة الحطب) تدعي بأنها موريتانية، وكان أهلها قد اختاروا لها اسم (أم المؤمنين) فإذا بها تتبرأ من أم المؤمنين، وتشهد بأنها في النار مع خيرة صحابة النبي صلى الله عليه وسلم».
وطالب المدون «السلطات الموريتانية أن تجري تحقيقا سريعا وجديا لكشف وتحديد صاحبة هذا الاتصال. فإن كانت موريتانية، كما زعمت، وكما يظهر من نطقها، فإن على السلطات أن تعاقبها بما تستحق من عقاب. وإن كشفت تلك التحقيقات بأنها ليست موريتانية فإن على السلطات أن تبشر الشعب الموريتاني بأن صاحبة المكالمة البغيضة ليست موريتانية كما ادعت».
الجدل يحتدم
هذه الحادثة جعلت الكثيرين من باحثين وسياسيين وحكومة يطرحون أسئلة كثيرة عن حقيقة التشيع في موريتانيا: فهل هناك بالفعل شيعة في موريتانيا؟ أم متعاطفون ومحبون فقط؟ وهل أصبحت الطائفة الشيعية في موريتانيا حقيقة قائمة بالفعل لها ارتباطاتها بكربلاء وبالحامية الشيعية في قم؟
الحقيقة أن في موريتانيا بذورا قوية للتشيع وهو ما تثبته وقائع كثيرة آخرها استقبال ممثل المرجعية في كربلاء الشيخ عبدالمهدي الكربلائي لزعيم الطائفة في موريتانيا بكار بن بكار ضمن ما أسماه بيان لموقع «العتبة الحسينية» «تحرك المرجعية الشيعية العليا نحو أبناء الطائفة في الدول العربية».
ونقل بيان موقع «العتبة الحسينية» عن بكار زعيم شيعة موريتانيا تأكيده أن «محور لقائه بالشيخ الكربلائي من أجل التواصل مع المرجعية الدينية العليا، وذلك لانقطاع الإخوة في موريتانيا من الاتصال بالمرجعية الدينية العليا»، مطالبا الشيخ الكربلائي أن تكون المرجعية الدينية على اتصال بهم بشكل دائم.
ونقل البيان عن الشيخ بكار القول «إن في موريتانيا الكثير من القبائل تسمى الزينبيين، أي أحفاد السيدة زينب عليها السلام، وإنهم شيعة على المذهب الجعفري ويعدّون بالآلاف». وأضاف أن «الشيعة في دول المغرب العربي يتعرضون إلى عمليات قمع»، مؤكدا أن «أعدادا كبيرة منهم يسكنون تلك الدول إلا أنهم لا يعلنون ذلك بسبب النفوذ الوهابي في تلك الدول».
وأثار لقاء الكربلائي ببكار بن بكار، الذي عرض على صفحات التواصل، تعليقات كثيرة من آفاق مختلفة، بعضها مثبت للوجود الشيعي في موريتانيا وبعضها ناف لذلك.
يقول المدون صفي الدين موريتانيا: «نعم يوجد في موريتانيا خلق كثير من الشرفاء الزينبيين والجعفريين لكننا لا نمت بأي صلة للشيعة الإيرانيين، وهذا الذي تسمونه بكار محمد علي شخص مجهول ولا يمثل غير نفسه».
وأضاف صفي الدين «نحن لن نقبل أي مزايدات ولن نسكت على الاتجار بنا والبعد بنا عن هويتنا الشنقيطية ومذهبنا الأشعري المالكي الخالص، وعليه لا كربلاء ولا قم ستجد لها موطئ قدم بيننا».
واقتحم المدون مهند العراق النقاش ليكتب: «المرجعية العليا لكل شيعة العالم هي في النجف الأشرف، لا في قم ولا في أي مكان آخر؛ وإذا تواصلت المرجعية العليا مع أي من شيعة البلدان الأخرى فليس في ذلك عيب أو إخلال بسيادة تلك البلدان؛ هل باستطاعة أي كان الاعتراض على تواصل الأزهر الشريف مع باقي الدول ذات المذاهب الأخرى؟».
عاشوراء في الصحراء
ويرى المدون محمد لفويرس «أن قبائل الصحراء مثل قبائل أزركيين وأولاد الدليم هي قبائل من نسل بني معقل وينتهي نسبها إلى سيد الشهداء جعفر بن أبي طالب، ولكن رغم ذلك فنحن متشبثون ومفتخرون بمذهبنا المالكي السني، ونعتبر من يتشيع ويتبع المذهب الشيعي قد مسه ضرب من الجنون أو وسوسة الشيطان».
وينفي المدون الذي سمى نفسه «موريتانيا» وجود أي شيعة على الإطلاق في موريتانيا قبل أن ينصح الإيرانيين قائلا: «هذا الرجل مجرد مدع، فلا تعطوا أموالكم لهذا الرجل الذي يدعي أن في موريتانيا آلاف الشيعة؛ فما يوجد في موريتانيا ليس الآلاف فقط وإنما مئات الآلاف الذين يقولون إنهم يتحدرون من نسل ابنتي النبي صلى الله عليه وسلم زينب وفاطمة، ولكن ليس من بينهم أي شيعي، فهم مثلهم مثل كل الموريتانيين سنة مالكيون يحبون آل البيت جميعا، كما يحبون بالقدر ذاته صحابة رسول الله عليه الصلاة والسلام، وفي مقدمتهم أبوبكر الصديق وعمر وعلي رضوان الله عليهم وهذه هي الحقيقة التي يعرفها الجميع».
نصيحة للإيرانيين
وفي الاتجاه نفسه يتدخل المدون محم سالم – موريتانيا معلقا: «لا أعرف عن بكار هذا شيئا ولا يوجد شيعي واحد في موريتانيا. هناك قبائل تنتسب لعلي أو الحسين مثل العلويين أبناء الحسن. لكن هذا الانتساب عرقي وليس طائفيا هؤلاء يقولون بأنهم من سلالة آل البيت وليسوا شيعة».
ويؤكد محمد سالم ولد لكبير في تدوينة له «أن الرئيس الموريتاني الأسبق محمد خونا ولد هيدالة حسيني من سلالة علي بن أبي طالب من قبيلة العروسيين. وهذه القبيلة تتواجد أكثر في الصحراء الغربية ولهم عادات معروفة في المنطقة، حيث يقضون في عاشوراء شهرا كاملا فيحزنون على الحسن والحسين وهذا ليس بالجديد ولكن مذهب هذه القبيلة مالكي سني».
موريتانيا ثاني بلد قيد التشيع
رغم أن المجتمع الموريتاني بكافة فصائله سني المذهب أشعري العقيدة منذ قرون، إلا أن التشيع أصبح ملموسا في البلاد وأصبح نشطاؤه يسعون لتنظيم أنفسهم.
وقد صرح بكار بن بكار الذي يسعى لتزعم شيعة موريتانيا لدورية «الأمل الجديد» الموريتانية المستقلة، بأنه هو نفسه «شيعي المذهب، سيستاني المرجعية، يجاهر علنا بانتمائه للمذهب الشيعي» مبرزا أن موريتانيا «تعتبر الدولة الأفريقية الثانية بعد نيجيريا من حيث انتشار المذهب الشيعي».
وأكد بن بكار، وهو خمسيني متحمس للتشيع، أن تاريخ دخول مذهب التشيع إلى موريتانيا كان في عام 1560 ميلادية. أما عدد الشيعة فقدره بما يناهز 45 ألفا قال انهم يقيمون في جميع مناطق موريتانيا.
وحدد بن بكار طلبات شيعة موريتانيا واحتياجاتهم في إنشاء مراكز دينية وعلمية خاصة بالشيعة «تمهيدا لإنشاء حوزة علمية تمكن نشطاء المذهب من الانتظام ومن المشاركة في طقوس الشيعة ومناسباتها في إيران والعراق».
وكشف بن بكار المقيم في مقاطعة كرفور في نواكشوط أنه اعتنق المذهب الشيعي عام 2006.
وقال ان «جميع الموريتانيين يحبون الرسول صلى الله عليه وسلم وآله، ويعظمونهم وهذا هو التشيع بعينه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (إنه من شيعتنا من أحبنا وتخلق بخلقنا)، مضيفا «لذلك أنا أرى أن الموريتانيين شيعة بطبيعتهم وموروثهم، والدعوة للتشيع لن تزيدهم تشيعا».
ومضى قائلا: «أنظر إلى المجتمع الموريتاني ومكوناته، تجد أنهم يمارسون مختلف العادات الموروثة عن الشيعة، ومن هذه العادات الزي الأسود عند المرأة الموريتانية، والعمامة السوداء فوق الثوب الأبيض عند الرجل إلى آخره من العادات المتجذرة في المجتمع الموريتاني والتي تتقاطع مع طقوس عاشوراء».
وأضاف: «ما أقوم به من نشاطات لا يعدو كونه مجرد العمل على العودة إلى مفاهيم المجتمع الأصيلة وتقريبها، لأنك إذا رجعت إلى أصل الخلاف داخل الأمة الإسلامية وجدت أن سببه كان سياسيا، الخلاف على الخلافة».
حسينية بكار
تؤكد المعلومات والتحقيقات المعتمدة في الدوائر الخاصة في موريتانيا «أن ظهور المد الشيعي في موريتانيا بدأ سنة 2006، حين أعلن بكار ولد بكار اعتناق المذهب الشيعي ودخل في نشاط غير مسبوق للترويج لكتب ومنهج الشيعة في البلاد، مع سعيه لإقامة حسينية في مقاطعة دار النعيم التي تعتبر من أكثر مناطق العاصمة فقرا».
وتؤكد وكالة «الساحل ميديا» الموريتانية المستقلة «أن بكار ظل يعمل بصمت تماشيا مع تعليمات الحوزات العلمية في إيران خشية مضايقته في نشر التشيع في موريتانيا. لكن بعد وصول الرئيس محمد ولد عبدالعزيز إلى السلطة وربطه علاقات قوية مع إيران، تجسدت في افتتاح متبادل للسفارات، بدأت أنشطة بكار تظهر للعلن وسمح له بإجراء مقابلات صحافية كشف فيها عن أرقام مبالغة حول تنامي المد الشيعي الذي قدره بما يناهز 45 ألفا قال إنهم يقيمون في جميع مناطق موريتانيا».
مؤلفات شيعية
وحسب «الساحل ميديا» فإن بكار أصدر مؤلفات تمت طباعتها بعناية في «مركز الدراسات التخصصية حول الإمام المهدي» من أبرزها كتاب «تعريف الموريتانيين بالشيعة».
ولم يعر الموريتانيون اهتماما كبيرا لتصريحات بكار ونشاطاته في نشر التشيع إذ أرجعها الكثيرون إلى قدرة الموريتانيين على النصب والاحتيال وتوظيف شتى الوسائل للحصول على تمويلات مالية لإقامة مشاريع تجارية خاصة.
وتضيف «الساحل ميديا»: «لم تكد تمض شهور قليلة على افتتاح السفارة الإيرانية في نواكشوط، حتى بدأ طاقم السفارة نشاطا محموما في عقد لقاءات مع عشرات الشخصيات الموريتانية، وتمويل مراكز ومدارس لحفظ القرآن وأخرى لتعليم العلوم الفقهية واللغوية».
واتبعت السفارة «خريطة الطريق» التي رسمها بكار ومساعدوه في نشر التشيع في موريتانيا وهي الخريطة القائمة على استغلال الفئات والمناطق التي ينتشر فيه الجهل والفقر لتحقيق أهدافهم وبلوغ مراميهم.
طلاب موريتانيون مبتعثون
وقامت السفارة الإيرانية في نواكشوط ، حسب «الساحل ميديا» بدعم أنشطة جمعيات أسست لنشر المذهب الشيعي من أبرزها «المركز الأفريقي للدراسات والأبحاث الصوفية»، و»جمعية بكار للثقافة والعلوم»، و»منظمة آلِ البيت في موريتانيا». ونجحت السفارة في إرسال 50 طالبا موريتانيا إلى الحوزات العلمية في لبنان من بينهم المنين السيدة التي جاهرت مؤخرا بسب صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقبل سفرهم، تضيف الوكالة، «منحت السفارة مبلغ مليون أوقية لكل واحد منهم لترتيب إجراءات السفر، وفي لبنان تم توزيع الطلاب على الحوزات العلمية الشيعية للدراسة في مرحلة السطوح التي يتلقى فيها الطالب دراسة معمقة حول الفقه الشيعي والمنطق، إلى جانب دروس في الفلسفة وعلم الكلام والحديث والتفسير».
وبعد سنة من الدراسة يحصل الطلاب الموريتانيون على شهادة «تجديد الإسلام» ليعلنوا بيعتهم وولاءهم للإمام الخميني.
ناقوس الخطر
واعتبر مراقبو هذا الملف أن زيارة رجل الدين الشيعي اللبناني محمد قانصو الأخيرة لموريتانيا، دقت ناقوس الخطر بتطور المد الشيعي في موريتانيا إذ أنها مكنت من تدشين مدرسة قرآنية صغيرة باسم الزعيم الروحي لشيعة غرب أفريقيا عبدالمنعم الزين.
وفجرت الزيارة غضبا عارما في صفحات التواصل الاجتماعي ولدى الأوساط الدينية، ما دفع الأجهزة الأمنية لاستجواب قادة أحزاب سياسية موريتانية كانوا في مقدمة مستقبلي الزعيم الشيعي.
وحسب المراقبين فإن المرجعية الشيعية في إيران انتهزت ظهور موجة الإلحاد الأخيرة في موريتانيا لتنشيط المد الشيعي في هذا البلد الهش.
القدس العربي