على جنبات شارع شارل ديغول، وسط نواكشوط، تفتح «قهوة تونس» أبوابها يوميا لاستقبال مئات الشبان الموريتانيين، في مشهد كان في البداية يثير استغراب المارة الذين نظروا إليه بشيء من الريبة والشك، قبل أن يتعودوا عليه ويكتشفوا أن هذه هي «القهوة»، ذلك الضيف الجديد القادم من «المشرق»، والذي لم يكن موجودا في ثقافة المجتمع الموريتاني.
رغم أن «قهوة تونس» تقع على شارع يحمل اسم واحد من أشهر رؤساء فرنسا «شارل ديغول»، وتقابلها في الجهة الأخرى «الخطوط الجوية الفرنسية»، وإلى جانبها يقع واحد من أكبر مراكز تعليم «اللغة الإنجليزية» في نواكشوط، إلا أنها استطاعت أن تخلق جوا «عربيا» تختلط فيه الموسيقى الأصيلة للسيدة أم كلثوم والفنان وديع الصافي، مع رائحة القهوة والشيشة العربيتين، وخليط من اللهجة «الحسانية» و«المصرية» و«التونسية» و«الشامية».
فخلال السنوات الأخيرة بدأت ظاهرة الجلوس لساعات في القهوة تستهوي الشباب الموريتاني بمختلف أطيافه، مما جعلها تغزو الشارع، لتصبح بذلك مظهرا من مظاهر مدينة نواكشوط الحديثة، حيث تمايزت وأصبحت هنالك مقاه تتناسب مع الأحياء الراقية التي تقع فيها، ومقاه أخرى في أحياء شعبية تشهد إقبالا كبيرا؛ لكن جميع هذه المقاهي احتفظت بصبغتها الرجولية، فمن النادر جدا أن ترى امرأة ترتادها.
«الشرق الأوسط» قامت بجولة في هذه المقاهي، وحاولت أن ترصد المشهد الجديد الذي أصبح جزءا من الحياة اليومية لمئات الشبان الموريتانيين، حيث اعتبر التاه ولد حبيب، وهو أستاذ في جامعة نواكشوط وواحد من أقدم رواد القهوة في نواكشوط، أن «القهوة بدأت تظهر في نواكشوط مع قدوم الاستثمارات المغربية والتونسية، وبالتحديد سنة 2001 مع وصول شباب مغاربة وتونسيين للعمل في شركات الاتصال، ليكتشفوا أن مدينة نواكشوط تتوفر على الكثير من فرص الاستثمار نتيجة لافتقارها إلى الكثير مما هو موجود في المدن الأخرى».
من بين هؤلاء الشاب التونسي رؤوف الذي وصل إلى موريتانيا سنة 2006، بعد أن أغراه أحد أصدقائه الموريتانيين بالهجرة إلى موريتانيا والاستثمار فيها، وبعد إلحاح من صديقه الموريتاني قال رؤوف إنه اقتنع بالأمر، ليبدأ بفتح «قهوة تونس»، التي أصبحت في ما بعد واحدا من أكبر المقاهي في نواكشوط، فتحسنت ظروفه المادية وأصبحت القهوة - مع مرور الوقت - مكتبا يوفر لرؤوف فرصة لنسج الكثير من العلاقات العامة، والتي استغلها في تجارة السيارات والعقار.
طبعا كانت بداية مثل هذه الاستثمارات صعبة، يقول التاه ولد حبيب، قبل أن يضيف «لقد كانت القهوة في بدايتها مقتصرة على الشباب العربي العامل في نواكشوط، قبل أن يلتحق بهم خريجو الجامعات العربية من الشباب الموريتاني والذين تعودوا على القهوة خلال دراستهم، ليكتشفوا بعد عودتهم إلى أرض الوطن أنها أصبحت موجودة في نواكشوط على الرغم من الإقبال الخجول عليها في البداية».
وهكذا تحولت القهوة في ظرف قصير إلى مكان يجتمع فيه مئات الشبان، من بينهم من لم يختبر القهوة خارج نواكشوط، فشكلت بذلك فضاء حرا يلتقي فيه الموظف بعد ساعات العمل، مع العاطل الذي يتخذ من القهوة مكانا مناسبا لانتظار فرصة عمل تلوح في الأفق.
بجمهورها الشبابي الذي يبلغ في ساعات المساء ذروة حضوره، موزعا على مقاعد وطاولات متناثرة على رصيف شارع «شارل ديغول»، استطاعت القهوة أن تلفت انتباه المجتمع، الذي نظر إليها بنوع من الفضول والاستغراب، حيث يقول التاه ولد حبيب «في البداية كان هنالك سوء فهم، فقد سألني أحدهم ذات مرة (ما بال هؤلاء الشباب مجتمعين هنا؟)، قبل أن يعلق (لعلهم يشربون الخمر أو يتعاطون المخدرات)»!! وأضاف ولد حبيب «الشيء نفسه كنا نلمسه لدى سكان الحي الذي تقع به القهوة، فقد كان هنالك فضول حقيقي لمعرفة لماذا يجلس هؤلاء الشباب في هذا المكان بالضبط، خاصة أن الجلوس على المقاعد ليس من ثقافة الموريتانيين، ولكن مع مرور الوقت اكتشفوا أن الأمر عادي جدا، وأنهم مجرد مجموعة من الشباب بدل أن يجلسوا في المنازل جلسوا في مكان عام».
أما عن نظرة الأهل لمرتادي القهوة من أبنائهم، فقال أحمد عبد الله، وهو طالب في جامعة نواكشوط من مرتادي القهوة «في البداية كان المجتمع ينظر لنا بشيء من السلبية، وأتذكر أنه مع بداية القهوة مطلع العقد الماضي كان يمكن أن يعيرك البعض بالقول إنك (لا تغادر القهوة) وكأنه يصفك بنوع من الشذوذ».
من جهة أخرى، فقد عُرف المجتمع الموريتاني، قديما وحديثا، بحبه لصناعة الشاي الذي ارتبط به الإنسان الموريتاني ليصبح أحد أهم الأشياء التي رافقته طيلة رحلته في الصحراء، فحمله معه إلى المدينة، ورافقت هذا الشاي طقوس خاصة وتقاليد مميزة، تعتبر من أهمها تلك الجلسات التي قد تكون عائلية أو جلسة بين الأصدقاء والأحباء، أو حتى جلسة شاي عابرة على قارعة أحد الشوارع، يجتمع خلالها بعض من الذين لا يربطهم سوى عشق الشاي.
لكن أسئلة بدأت تطرح حول مصير الشاي وطقوسه وتقاليده، بعد هجرة بعض الشباب لجلساته الخاصة في المنازل، والإدمان على القهوة بأجوائها الخاصة والجديدة، وعنفوانها وبريقها الذي يبدو أنه أصبح جاذبا لما يمثله من حرية قد لا يجدها الشاب في الجلسات التقليدية.
في هذا السياق يعلق التاه ولد حبيب قائلا «القهوة يمكن أن تحل محل جلسات الشاي التقليدية بين الأصدقاء، لكنها لن تستطيع أن تلغي جلسات الشاي العائلية، والتي تعتبر جزءا من التقاليد الموريتانية العريقة، فالقهوة في موريتانيا، على غرار نظيرتها في أغلب البلدان العربية، لا تزال ذكورية بامتياز ولا مكان للمرأة فيها».
بدوره يقول مجدي أحمد، وهو موظف في إحدى شركات الاتصال الموريتانية، يرتاد القهوة منذ دراسته في المملكة المغربية، إن «القهوة التي نجلس فيها الآن ليست منتجا موريتانيا، إنها مستوردة من الدول العربية ولم تدخل عليها أي تعديلات لتتماشى مع طبيعة وخصوصيات المجتمع الموريتاني». وفي هذا السياق، يتساءل الطالب الجامعي أحمد عبد الله «لماذا القهوة في نواكشوط يسيطر عليها العرب، لماذا لا يحاول الموريتانيون فتح المقاهي؟.. عندها ستكون القهوة ذات طابع موريتاني، وستكون رائجة أكثر»، قبل أن يستدرك أنه «على أي موريتاني يتجه للاستثمار في القهوة أن يدرك أنه لا يبيع شرابا وطعاما فقط، وإنما يقدم خدمة ومعاملة حسنة».
لقد تعود الشباب الموريتاني على اللجوء إلى أماكن معزولة يشربون فيها الشاي ويلعبون الورق ويدخنون ويناقشون، بعيدا عن مجالس الكبار، وهذا ما وجدوه في القهوة، حيث يقول التاه ولد حبيب «إن القهوة توفر متعة الالتقاء بأصدقاء قدماء من زمن المدرسة، أو جيران سابقين، كما أنها تعطيك فرصة لقاء أشخاص في مكان محايد، فلا أنت في منزلك ولا الشخص الآخر في منزله، فالجميع متساوون في المكان وهذا مهم من الناحية النفسية لبعض الأشخاص».
ويرى مجدي أحمد أن «غياب أماكن الترفيه في نواكشوط لعب دورا محوريا في إقبال الشباب على القهوة، فلا توجد قاعات سينما ولا مكتبات ولا قاعات مطالعة، ولا حتى مطاعم على مستوى عال يمكن للشخص أن يخرج إليها، ولا محلات تجارية جاذبة؛ فأغلب الناس يجلسون في المنازل يشاهدون التلفاز، وهكذا شكلت القهوة متنفسا للشباب من أجواء المنزل والروتين».
هذا الجو الخاص الذي وفرته القهوة للشباب الموريتاني ارتبط بنوع من الحرية والتحرر من المسؤولية، حيث يؤكد حمزة ولد المصطفى، وهو خريج إحدى الجامعات التونسية وأحد رواد القهوة، أن «أغلب روادها عزاب يقضون ساعات في القهوة، وهنالك بعض من أصدقائنا عندما تزوجوا انتهت علاقتهم بها أو قل الوقت الذي يخصصونه لها»، مفسرا ذلك بأن القهوة كانت بالنسبة لهم «نوعا من الحرية والبعد عن المسؤوليات المنزلية»، وفق تعبيره.
وفي السياق نفسه، يعلق التاه ولد حبيب بالقول إنه «عندما يعود أحد المتزوجين إلى الجلوس في القهوة نعرف أن زوجته إما مسافرة أو أن هنالك أمرا ما حدث؛ حتى إن بعض الشباب أصبح يرى أن القهوة منافسة للزوجة في بعض الأحيان».
ويرى بعض رواد القهوة أن هنالك علاقة خاصة أو صلة خفية بينها وبين مواقع التواصل الاجتماعي، حيث يقول التاه ولد حبيب «رواد القهوة والناشطون على شبكات التواصل الاجتماعي متشابهون، فهم من الفئات العمرية نفسها، وتقريبا من نفس المستوى والخلفية الثقافية والفكرية، فالقهوة عبارة عن مقطع عرضي وعينة تعطي صورة عن العالم الافتراضي الموريتاني، فالكثير ممن تعرفت عليهم في الـ(فيس بوك) و(تويتر) احتككت بهم أكثر في القهوة».
وفي السياق نفسه، يقول مجدي أحمد إن «القهوة تقترب شيئا ما من مواقع التواصل الاجتماعي، حيث تشكل فضاء مفتوحا للنقاشات السياسية، فمن الطبيعي أن من يزورك في بيتك أو مكتبك سيظل متحفظا بشأن الدخول معك في نقاش صريح، لكن في القهوة يكون الأمر مختلفا حيث لا يكون الشخص ملزما بالتحفظ ناحية أي رأي كان».
ويضيف ولد حبيب «المواضيع التي يناقشها الشباب الموريتاني في القهوة هي نفسها تقريبا المواضيع التي يناقشها الموريتانيون في مواقع التواصل الاجتماعي، فإذا كان الموضوع السائد في تلك المواقع سياسيا يكون هو الموضوع الأول في نقاشات شباب القهوة، أما إذا كان رياضيا فلن يعلو تلك الليلة في القهوة صوت على الرياضة».
وعلى الرغم من التشابه القائم بين «القهوة الموريتانية» ومواقع التواصل الاجتماعي التي دخلت من الباب الواسع إلى المجتمع الموريتاني، تبقى القهوة محدودة الانتشار، حيث لم تتجاوز بعد العاصمة نواكشوط، ويرى المواطن البسيط أنها عاجزة عن منافسة جلسات الشاي التقليدية التي تتماشى أكثر مع طبيعة الإنسان الموريتاني.