سوق الكتاب الموريتاني: (كساد في القاعدة ورواج في غوانتانامو)
بينت في الحلقة الأولى من معالجة (سوق الكتاب الموريتاني: كساد في القاعدة ورواج في غوانتانامو) كيف كانت قيمة الكتاب مرتفعة عند الأجداد وظلت محافظة على مستوى ما عند الآباء وقدمت مثالا حيا على ما يحظى به الحرف، اليوم، من اهتمام في البلاد القارئة.
وأتابع في هذه الحلقة لأبين كيف انقضي عهد غلاء الكتاب في موريتانيا وتداعت بذلك قيمة أسهم أهم مؤشرات المعرفة.. ولأنني غير محيط بتجارب كبار المؤلفين فسأكتب عن تجربتي الشخصية المتواضعة وما عاينت بخصوص قيمة الكتاب الحالية في هذه البلاد.. وتوبلة للمقال ارتأيت، أن أشارككم بعض المحطات الزمانية والمكانية التي مررت بها في رحلة كتابي، إحياء لسنة تدوين رحلات الموريتانيين إلى المشرق التي كتب فيها ولد اطوير الجنة، الشيخ ماء العينين، محمد يحي الولاتي، محمد فال ولد باب العلوي، المعلوم البوصادي، محمد يحي ولد ابوه اليعقوبي والشيخ محمد الأمين الجكني.. ولا أخفي أنني لم أطالع ما كتبه الأعلام المذكورون وإنما قرأت شذرات من كتاب أحدهم وطالعت معلومات عنهم، في مقال للدكتور حماه الله ولد سالم تحت عنوان: رحلات الحج من موريتانيا (بلاد شنقيط)، يبدو أن صاحبنا قدم مادته خلال مؤتمر عقد في الدوحة سنة 2010.
سأحكي عليكم قصة كتابي كاملة ومن البداية: أيام كان حلما جميلا وعندما أصبح مخاضا عسيرا وكيف استهل صارخا مع ذكر ما يعانيه من جلد وإهمال في مراهقته الصعبة، ذكر في حكم الشكوى.. وستستخلصون من بعض المواقف صحة القاعدة المنوه عنها في العنوان وهي أن الكتاب أصبح كاسدا في هذه البلاد.
اجتذبتني الكتابة منذ الصغر فكانت أكبر أمنياتي أن أكون مؤلفا وإذا تجاوزت الإرهاصات الأولى، للرسم بالكلمات، أذكر أن بدايتي الجادة كانت في سنة 1997، فبعد أعوام من ممارسة مهنة المحاماة اكتشفت البون الشاسع بين ما تتضمنه النصوص القانونية النظرية وما تكرسه الممارسة القضائية في الواقع فتناولت الموضوع في مكتوب لم تكن صفحاته تعدو سبعا وعشرين (27) صفحة.. عمدت إلى طباعتها وتوزيع نسخ منها على القضاة والمحامين وكتاب الضبط العاملين معي في مدينة انواذيبو.. تفاعل القضاة مع الورقات تفاعلا منقطع النظير ورد عليها قاضيان أديبان، هما الأستاذ أحمد سالم ولد مولاي اعل الذي كان يرأس محكمة استئناف انواذيبو آنذاك و"أصبحت ركبتي تلامس ركبته على مقاعد المحامين" بعد ولوجه مهنة المحاماة فيما بعد والقاضي محمد الأمين ولد داداه، الذي كان يرأس محكمة المقاطعة، وسافر للعمل والإقامة في دولة الإمارات العربية المتحدة فاستقبلني في بيته عندما زرت أبا ظبي.
تقاطعت طبيعة عملي كمحام مع اهتمامي بالكتابة ولذلك صوبت قلمي إلى العمل القضائي ولم أقتصر على الورقات التي كتبت في حكم معاوية ولد سيد أحمد الطائع فعندما أمسك المجلس العسكري للعدالة والديمقراطية مقاليد السلطة نشرت تقويما لعمله في إصلاح القضاء وتناولت مخالفاته الدستورية ونواقص التشريع الموريتاني الصادر في ظله كما عرضت التجاوزات القانونية في اكتتاب للقضاة قرره المجلس آنذاك.
وعندما نصب سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله، إثر انتخابه رئيسا للجمهورية الإسلامية الموريتانية، تطبيقا للقانون الرباني في تداول الأيام بين الناس، تريثت فترة فلما لاحظت عدم التفاته للقضاء كتبت له رسالة تذكير بأوضاع المرفق وضرورات إصلاحه.
وإثر انقلاب 6 أغسطس 2008، امتشقت قلمي وسخرته للدفاع عن الشرعية وتلك رحلة أخرى لن أتوسع في أمرها لأنها ستكون، بإذن الله، مادة كتابي المرتقب: مرافعات، لصالح الدولة الموريتانية ضد الانقلابات العسكرية.
ولما اتفق السياسيون وعادت المياه إلى مجاريها بدأت العمل على تجسيد مشروعي بإصدار كتاب عن سير العدالة أبرز فيه قناعتي عن واقع التردي وأدمج بين دفتيه المقالات ذات الصلة التي سبق وأن نشرت عبر الصحف الورقية والمواقع الإلكترونية. وبعد نظر تبلورت خطة الكتاب: خمسة فصول أفردت الفصل التمهيدي لتبرير واقع الخلل القضائي في موريتانيا وتجلياته وضمنت الفصل الأول: مبادئ القضاء المنتهكة، محتوى الأوراق التي كتبت سنة 1997 وضمن هوامشها الردود الواردة عليها وفي الفصل الثاني: الإصلاح المتسرع، عرضت رؤيتي لعمل المجلس العسكري للعدالة والديمقراطية وفي الفصل الثالث: الاستقالة القضائية للدولة، لخصت تصنيفي لفترة حكم سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله وبداية حكم محمد ولد عبد العزيز إلى غاية مطلع سنة 2010. قبل أن أخلص في الفصل الختامي إلى ضرورات إصلاح القضاء.
1.
اخترت أن يكون عنوان كتابي: "مباحث في سبيل العدل" معالجات لواقع التردي القضائي في موريتانيا وضرورات الإصلاح (الفترة من 1997 وحتى 2010)، فقمت بطباعة المصنف بنفسي وأًصبحت مسودته جاهزة بحلول سنة 2010 ولم تبق إلا اللمسات الأخيرة التي تستمر عادة إلى أن يتجسد الكتاب ويجف حبره بحيث يتعذر المساس به. ولغرض التكثير والحبك شددت الرحال إلى الإمارات العربية المتحدة مغتنما فرصة معرض أبي ظبي للكتاب في نسخته العشرين التي انطلقت في اليوم الثاني وانتهت في السابع من شهر مارس 2010. مع أنه يجدر بالذكر أن تلك الزيارة لم تكن عهدي الأول بدولة الإمارات العربية المتحدة.
نزلت، كالعادة، في بيت الشاعـر محمد بويا ولد اعليه (ابن خالي المقيمين في الإمارات) البيت الذي أذكر أن محمد ولد عبدي، رحمه الله، كان يحدثنا فيه، ذات مساء، عن رحلته في الأناضول على خطى ابن بطوطة.. كما أذكر أنني التقيت بين جدرانه بعض سفـراء القلم: السيد ولد اباه، أحمد سالم ولد ما يأبى، محمد سالم ولد الداه، سعدنا ولد الطالب والفاللي ولد المزروف..
في مساء أحد الأيام استبقت نهاية دوام مضيفي، وخرجت من البيت ميمما ميدان المعارض وعندما اقتربت من الضاحية لفتت انتباهي عمارة بديعة كانت تقترب رويدا رويدا، بعكس المألوف كانت البناية منحنية وكأنها تلتفت إلى الخلف باعتدال.. لم يتولد هذا الانطباع عندي نتيجة انبهار بالعمارة الحديثة فقد زال ذلك عني، منذ عقد، بعد أن زرت عواصم كبرى.. إلا أن العمارة المنحنية كانت فريدة من نوعها ربما كان أهل الدار يريدون تعبيرا لافتا عن تقديرهم للمعرفة بطأطأة رأس عمارة "كابيتال جيت أبو ظبي" في رحاب ميدان المعارض إلى أن وصلت درجة ميلانها 18 درجة.
دخلت المعرض ووقفت عند الإرشادات قبل أن أنطلق إلى جناح المطابع ودور النشر.. كان الحضور الهندي قويا وعاكسا للتاريخ فللهند مع فن الطباعة حكاية قديمة.. تبادلت الحديث مع بعضهم بلغة إنجليزية متواضعة واجتزت حتى وصلت إلى مطبعة إماراتية كان وكيلها شابا عربيا شرحت له بغيتي وبعد التبادل أدركت بأن مطبعة المسار يمكن أن تلبي طلبي فتبادلنا أرقام الهواتف واتفقنا على اللقاء، بعد انقضاء أيام المعرض، بمقر المطبعة في مدينة دبي على بعد مائة وثلاثين (130) كيلومترا.. تنفست الصعداء بعد أن قطعت خطوة في إنجاز "مهمتي التاريخية" وبدأت الجولة العادية عبر أجنحة المعرض.
أذكر أن الجناح الموريتاني كان من أكثر الأجنحة روادا.. إلا أنني لست متأكدا ما إذا كان ذلك الانطباع تحصل لدي أثناء زيارتي تلك أو بعدها.. الأكيد أنني ألفيت مرارا سلامي ولد أحمد المكي وهو يقف بصبر ساهرا على مؤازرة الكتاب الموريتاني حيث تزدحم كتب العالم.. علاوة على الدور الذي تطلع به مكتبته (القرنين 15/21) في نشر الكتب الوطنية.
جذبتني اللغة إلى جناح الفرنسيين وكانت جامعة السوربون تروج لاجتذاب الطلبة للتسجيل في فرعها المفتتح في أبي ظبي.. كنت راغبا في تعميق الدراسة والبحث للحصول على الدكتوراه في أحد فروع القانون فاستفسرت عن شروط التسجيل إلا أن الرسوم المرتفعة والبعد أرغماني على صرف التفكير عن الموضوع.. تبادلت الحديث مع بعضهم ولا أزال أذكر مسنة فرنسية يبدو أنها سئمت قرع الإنجليزية الدائم على مسامعها وطربت للحديث بلسان قومها فطفقت تنادي الآسيويين المتجمهرين حولها، باللسان الإنجليزي، قائلة: إنه من موريتانيا وموريتانيا من فرنسا، باريس.. لم أجد سببا لتفنيد قول السيدة، لأني مطمئن بأن لغوها لن يعيد الاستعمار الفرنسي لخيامنا.
عرجت إلى كشك جيراننا السنغاليين فوقفت مع مواطنين كان أحدهما يتكلم بصوت مرتفع ويضحك بعفوية وهو يذكر لي أنه زميل لرئيس الجمهورية السيد محمد ولد عبد العزيز لأنه درس معه في مدرسة لم أحفظ اسمها إلا أنني أعتقد أنه ذكر بأنها في مدينة (اللوكة) السنغالية..
وفي المساء خرجت أنوء بالكتب التي اشتريت والتي لا شك أن وزنها يتجاوز العشرين كيلوغراما، حمل لا تسمح الخطوط الجوية للمسافر عادة باصطحابه مجانا.. ولكن لا بأس فثمة خط آمن يضمن التواصل بين البلدين عبر البحر.. أحببت مهرجان الكتب وفضاءه واعتدت أن أبرمج زياراتي اللاحقة كي تتصادف مع معرض أبي ظبي للكتاب.
2.
على الرغم من التنائي الجغرافي بين موريتانيا والإمارات فإن ثمة تشابه كبير في العادات وتقاطع لهجي جلي فكما يتشابه الجناحان رغم عدم تماسهما يتماثل سكان جناحي بلاد العرب غربا وشرقا: في المجتمعين التقليديين أبناء بدو كانوا يحدون حيواناتهم لانتجاع الكلأ والمرعى. ذللوا الجمال للركوب وسكنوا خياما نسجوها من شعر ووبر الأنعام الذي يجزه الرجال قبل أن تعكف النسوة على السدو لنسجه.. تستخدمن المغزل والنيرة والأوتاد وتشددن البرمة والفتلة لنسج "فليج" وتصلن القطع فيما بينها لصنع خيام وفرش.. ويمكن للقارئ المعاصر التوقف للتأكد من أن العبارات المستخدمة هي ذاتها في كلا المجتمعين التقليديين.. مرة كان أحد مواطني دولة الإمارات إلى جانبي عندما رددت على اتصال هاتفي وأخبرت المتصل بأن لدي "خطارا"، عجب الدكتور عبد الله النيادي، الذي زارنا ذات عام في موريتانيا، من كونهم يستخدمون نفس المصطلح للدلالة على الضيوف.. ربما نقل بعض الرحالة الكلمات بين الحيين..
قد يكون العداء ابهاه (بجزم الباء ورفع الهاء) الذي ذهب حاجا من خيام أهله في موريتانيا وجاوز الكعبة مشرقا "برك" (بنصب الراء وتشديده) عند بعض خيام العرب في الخليج وأقام عندهم فتعلم منهم عبارات البدو المشتركة أو علمهم إياها، قبل أن يدلف إلى مكة عائدا من الشرق لأداء الفريضة.. لقد شاهدت نماذج مصغرة من خيام الإمارات في المراكز التجارية ولاحظت تشابها في الشكل والتأثيث رغم تباعد مضارب خيام المجتمعين.. فمن علم نسوة الحيين المتباعدين الجلوس على خيوط الطول والعكوف على السدو لإدراج خيوط العرض وأداء سيمفونية النسج بذات الطريقة؟
كنت ضيفا في خيمة التواصل، بيت أصيل بمزارع الختم (بنصب الخاء والتاء) على طريق: أبو ظبي – العين، أقامه صاحبنا الدكتور عبد الله النيادي، لاستقبال ضيوفه وليكون مقرا للدبلوماسية الشعبية الإماراتية، قام أبو التواصل، كما يكنى، بتفريش بيته على الطريقة الأصيلة وجهزه بمختلف الوسائل المعاصرة.. والحقيقة أني شعرت بالراحة عندما قعدت فيه القرفصاء ومددت أطرافي وهو شعور لا يخامرني عندما أجلس متطامنا على كرسي، فمهما كان وثيرا فإنه يقيد الجالس بهيئة محددة.. كانت السهرة رائعة ألقى فيها محمد بويا الملحمة التي فاز بها في مسابقة مديح رسول الله صلى الله عليه وسلم، المنظمة من طرف دائرة أوقاف دبي سنة 1420.. وتكفل الإخوة السودانيون بإنعاشها بمدائحهم الشجية في مدح خير البرية.. نسيت مسرح شاطئ الراحة ونهائيات مباريات الشعر.. اعذروني إن قطعت الحديث في موضوع ذي شجون.. فقد آن لي أن أرجع لرحلة كتابي.
3.
في صباح أحد الأيام انطلقت من مدينة أبي ظبي إلى دبي في رحلة قارب وقتها الساعتين. قرر سائق سيارة الأجرة الانعراج يمينا عند سيح شعيب سالكا طريق الشاحنات، كانت سيارة الأجرة تزاحم المركبات الكبرى بينما كنت أتابع باهتمام حركة العداد المنهمك في مهمته الحصرية.. بعد لأي وزحام وصلت مطبعة المسار ضحى وكان كتابي جاهزا بعد تنسيقه على نمط PDF ومسجلا على حامل إلكتروني وضعته في جيبي إلا أنني احتياطا اصطحبت معي "اللاب توب" تحسبا لتعطل أحدهما.. وإمعانا في الحزم كانت نسخة أخرى محفوظة في بريدي الإلكتروني.. لم يبق إلا تجسيد الغلاف الذي كان تصوره النظري واضحا في ذهني: ميزان في إحدى كفتيه صورة لقصر العدل في انواكشوط، كنت التقطتها بنفسي وفي الكفة الأخرى كتاب يحمل العلم الوطني وعبارة القانون.. وعلى الرغم من وزن القصر بطوابقه المتعددة وكتلة خرسانته المسلحة فقد أردت أن تكون كفة ميزان كتابي مائلة لصالح القانون.. حاولت تجسيد التصور إلا أن نقص المهارات الإلكترونية اضطرني للاستعانة بفني مطبعة المسار فكان ما تطالعون على الكتاب وفي الصورة المرفقة.
كنت أحدث نفسي بأن خمسة آلاف نظير رقم مناسب لكتابي: فلا بد أن من يزاولون المهن القضائية من محامين وقضاة وكتاب ضبط سيتلقفون ألفا وسيستحوذ المثقفون المهتمون من خارج الحقل القضائي على ألفين، أما الألفان المتبقيتان فسأحتفظ منهما بمائتين قبل أن يتلقف الباحثون الباقي.. وبعد سنة ستكون الطبعة الأولى شارفت على النهاية فأبادر إلى طبعة ثانية أتلافي فيها الأخطاء المحتملة.. فلقد جربت حكمة عماد الدين الأصفهاني (والبعض نسب القول للعسقلاني أو اللخمي): «إني رأيت أنه لا يكتب إنسان كتاباً في يومه، إلاّ قال في غده: لو غُيّر هذا لكان أحسن، ولو زيد كذا لكان يستحسن، ولو قدِّم هذا لكان أفضل، ولو تُرك هذا لكان أجمل، وهذا من أعظم العبر، وهو دليل على استيلاء النقْص على جملة البشر".
بعد جس الجيب ومراجعة مختلف المعطيات تعاقدت مع المطبعة على ثلاثة آلاف نسخة من مباحثي وعلى أن يكون ورق الكتاب من الحجم الصغير (A 5) الذي ضبط عليه المصنف أصلا، بغلاف مقوى مكسو بطبقة ابلاستيكية رفعت التكلفة.. فلا بد من حلة جميلة للكتاب وللرداء الأول في مجتمعنا قيمة لا تهان.
قضيت يوما كاملا في مباني المطبعة فلقد قرر رفاقي أن أنتظر نهاية الدوام لمرافقة مهندس يقيم في السمحة على مشارف أبي ظبي.. ولأن دبي مدينة مزدحمة وغالية الإيجارات يقطن الكثير من العاملين بها في الضواحي.. ركبت مع المهندس المصري الشاب عزت حسين عزت في سيارته فكان نعم الرفيق.. بدلا من تركي أتدبر أمر التاكسي بعد أن قطعت ثلثي المسافة أبى إلا أن يوصلني إلى البناية التي أقيم فيها.. واختلق لذلك مشوارا فاتصل بأصدقاء كانوا جاهزين لمرافقته من السمحة.. أذهبت النكت المصرية التعب البدني وطوت المسافة.
سيسدي المهندس المصري عزت لي خدمة أخرى فبعد الطباعة جلب لي كراتين من الكتاب اصطحبت محمد (شقيقي الشرطي) لاستلامها منه في المساء.. تصفحت كتابي في الطريق في سيارة الأخ فشعرت بفرح بالغ.. لقد أنجزت أغلى أمنياتي وقررت أن أخصص ريعه لطباعة المؤلف التالي في السنة القادمة.. وكنت أبوح عن بعض برامجي للأخ أبي فارس الذي سعى مرارا بطريقة مهذبة إلى منعي من التحليق في فضاء الخيال كي لا تكون صدمة السقوط قوية.. لقد كانت لمحمد بويا تجربة في الميدان حيث قام منذ أعوام، بعد التحقيق والشرح، بطباعة كتاب "أرجوزة دليل باغي الحق لعلم بعض خلق خير الخلق" صلى الله عليه وسلم لمؤلفه القاضي محمدن ولد المزروف الملقب سيلوم.
والحقيقة أنني عندما أستحضر الماضي لا أبرئ نفسي من بعض الغرور.. فكما قال الطيب صالح في رواية موسم الهجرة إلى الشمال: "كنت في تلك الأيام مزهوا بنفسي حسن الظن بها".. كنت أعتقد أن الكتاب يمكن أن يرفع من قيمة صاحبه ولكنني مطمئن بالشفاء الآن بعد أن تلقيت جرعات متتالية في إطار برنامج تجاهل الكتاب، ستطالعون تفاصيلها في المقطع الموالي.
4.
عندما ركبت راجعا إلى بلادي اصطحبت معي نسخا محدودة من الكتاب حرصت على أن أفرق بينها كي لا تلفت الانتباه.. كنت أعلم أنه ما من سبب شرعي سيقف في وجه المصنف ولكن دهشة المبتدئ جعلتني أتوجس.. كان من دواعي سروري انصراف اهتمام جمارك مطار انواكشوط إلى قنينات وساعات وهدايا كتلك التي نصطحبها في العادة.. كان بعضها أمانات سلمت لأصحابها وتبين فيما بعد أن بعضها مجرد أكياس فارغة تم اختلاس محتوياتها في محطة ما من الرحلة..
دخل الكتاب البلاد جوا وبحرا دون أن يسأل أحد عنه وبعد الإيداع الشرعي بدأت حملة الإهداء.. غيرت إستراتيجيتي فبعد أن كنت أتستر على الكتاب خوفا من المجهول بدأت العمل على لفت انتباه الناس إليه، دون جدوى.. لم يكن أغلب من أصادفهم يكترثون، كان بعض من أهديه المصنف يمسكه على هون وعيناه تتوسلان لإعفائه منه. وكنت أكتشف أن بعض من أهديه لهم يتنازلون عنه لأول شخص يصادفونه. فكانت الجرعة الأولى من مسكنات الغرور.
اخترت طرح الكتاب في ثلاث مكتبات: 15/21، وشركة الكتب الإسلامية في موريتانيا ومكتبة الإصلاح، فلما راجعتها بعد عدة شهور وجدت أن النسخ التي تم تصريفها لا تعدو عد أصابع اليد الواحدة.. فكانت ملعقة أخرى من الدواء.
في يوم 10 يونيو 2010 أعلنت التلفزة الموريتانية عن استضافة وزير العدل في حلقة من برنامج: الحكومة في الميزان، كانت التلفزة آنذاك تعلن تبني منهج انفتاح تجسد في تناول بعض القضايا بصراحة نسبية وإتاحة الفرصة للبرامج المباشرة والمداخلات، فقلت في نفسي ربما تكون فرصة للمصنف.. الكتب معتبرة والتلفزة تلتقط أحاديث الشارع.. بادرت بإرسال نسختين من الكتاب بواسطة البريد الدولي المضمون ups، وكتبت رسالة إلكترونية لمدير التلفزة ومساعده ومدير البرامج، على عناوينهم الإلكترونية المنشورة في موقع التلفزيون الوطني TVM، لإشعارهم بالإرسال لأن بث البرنامج كان وشيكا.. وجلست في اليوم الموعود، في العشر الأواسط من يونيو 2010، لمتابعة برنامج الحكومة في الميزان: استهل المقدم حلقته بافتتاحية طويلة عن أهمية إصلاح القضاء، نقلها من كتابي حرفا بحرف ودون أدنى تصرف، إلا أنه قرر كتم المصدر فبدت الافتتاحية كما لو كانت من إنشاء الصحفي أو إدارته.. المشكلة أن المادة ليست لي وقد أثبتتها لصاحبها.. لست أدري ما إذا كان لدى مقدمي البرامج في التلفزيون الموريتاني فكرة عن الملكية الفكرية وما يستوجبه القانون من ذكر للمصادر وعن تصنيف استخدام أفكار وعبارات الآخرين دون نسبتها لهم.. انقضت ساعتان دون ذكر الكتاب فكانت جرعة أخرى في إطار البرنامج.
وفي يوم 30 يونيو 2010 بعثت بنسخة من كتابي لوزير العدل وبعد أيام اتصل بي سكرتيره الخاص وربط الاتصال بيني وبين الوزير الذي كنت وإياه نتردد على قسم واحد من أقسام جامعة انواكشوط.. كان الرجل متحمسا بعد أن توصل لتوه بالنسخة الأنيقة وأثناء المحادثة وعدته بزيارته في مكتبه عندما أصل انواكشوط.. بعد أيام دخلت على السكرتير الخاص، الذي يعرفني جيدا، فأبلغته عن رغبتي في مقابلة الوزير.. وعندما طال الانتظار أدركت أن عضو الحكومة يتجنب لقائي فتركت رقم الهاتف وانصرفت.. لم يفاجئني التراجع فقد كنت أتوقع أن يفتر حماس الرجل بعد الغوص في المصنف الذي أعلم جيدا أن منهجه النقدي وصراحته ينافيان تقاليد المديح المحبذة لدى الإدارة.. لقد أردت من كتابي أن يكون صرخة ضد الظلم لا أن يصنف في ملتمسات التأييد والمساندة.. ليس في الكتاب تجريح وإنما انتقادات موضوعية.. فهل فكر المسؤولون في أنهم بتجنب سماع النقد ينحون عن العمل الجاد ويسلكون سبل المجون.
استحضرت واجب المواطن النموذجي في التعاطي مع من يشرفون على قيادة البلد فبعثت في يوم 06 يوليو 2010، بواسطة بريد ups دائما، بنسخ من الكتاب للسيد رئيس الجمهورية الإسلامية الموريتانية وللوزير الأول بواسطة مديري ديوانيهما فلم يكن لذلك صدى.
كنت أباشر حملة وطنية كبرى لتعميم كتابي فأرسلت نسخا منه لبعض أعلام البلد.. لأبرز البرلمانيين في المولاة والمعارضة مع التركيز على ذوي الاختصاص.. ورغم الجلبة المتكررة حول العدل على منصة البرلمان لم أسمع منتخبا يعلق على الكتاب أو يستشهد بما ورد فيه.. ولكنني أعذرهم لأنني أعلم أن أغلبهم لم يقرأ المصنف.
التقيت مرة الدكتور عمر أبو البشر، خبير بترول سوداني الجنسية قدم إلى موريتانيا باحثا عن أصوله الشنقيطية.. فأهديته نسخة من كتاب النفط والطاقة في موريتانيا، لمؤلفه محمد عالي ولد سيدي محمد، فلما التقيت الخبير الدولي بعد ذلك بفترة ذكر لي بأنه طالع الكتاب فتحصل لديه الانطباع بأنه ما كان ليسمح بنشر مثل هذه المعلومات في بلاد أخرى.. ولكن ما لم يدركه ابن كرام الدليمي أننا لسنا بقارئين.
بعد أن انقضى النصف الأول من سنة 2015 ومضى أكثر من خمس سنوات على نشر كتابي راجعت المكتبات لأجد أن مجموع النسخ التي تم تصريفها لا تعدو الخمسين نسخة.. أي بمعدل أقل من نسخة في الشهر.. استحضرت أنه إذا سار التعاطي مع كتابي بهذه الوتيرة وعشت خمسين سنة أخرى فسيرث خلفي أكثر من ثلاثة أرباع النسخ وقد كانت تلك الجرعة المحصنة من داء غرور الكاتب مدى الحياة.. يجوز لنا في موريتانيا أن نحتفل بنجاح برنامج القضاء التام على داء غرور الكتاب الفتاك.
وأثناء كتابة هذا المقال توفي الكاتب محمد سعيد ولد همدي، الذي كتب في حياته، مقالات أجل أغلب الموريتانيين قراءتها لما بعد وفاته.. قرأت تعليقه على قصيدة السفين لأول مرة يوم دفنه بعد أن نشرها الشيخ بكاي.. رحم الله "عاشق الكتب" كما لقبه سيدي ولد أمجاد والسلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين.
5.
ربما حسب البعض أن إهمال كتابي "مباحث في سبيل العدل" عائد لنقص فيه ولتبديد ذلك يهمني أن أسرد بعض التعليقات الواردة عليه.. كانت التعليقات الشفهية كثيرة إلا أنها ذهبت جفاء.. أما الملاحظات المكتوبة، فيمكن حصرها في خمس تعليقات أقتطف نماذج منها، على أن أرتبها اكرونولوجيا:
في يوم 30 دجنبر 1997، كتب الأستاذ/ أحمد سالم ولد مولاي اعل: "كم كنت أتشوق لأن يقع بين يدي مكتوب تروق قراءته أسد به فجوة من الوقت الفائض.. أود أن أنوه بالأستاذ وبجهوده، وأثمن مبادرته، وأقدر جرأته، في التسور على الحقل، وإزالة حصنه من الداخل ليسهل على العامة ولوجه من الخلف على حين غرة وليركن منه إلى "باطن الباب" بعيدا عن المكاتب والضبط وقاعات المحاكم حتى لا يتهم بارتكاب جرائم الجلسات..".
وفي نفس يوم 30/12/1997، كتب القاضي محمد الأمين ولد داده: ".. وهذه الرسالة وإن كنت من أول المصابين بسهامها المسمومة ودعايتها التي تحمل في طياتها سيلا جارفا من النقد الغاضب والجرح البليغ فإنها مقبولة في نظري لأنها تحمل في أغلبها جملة من الحقائق التي لا يمكن للقاضي المنصف أن يتملص منها إلا إذا كابر في واقعه المر".
وإضافة للتعليقين أعلاه، المضمنين في هوامش الكتاب، توصلت برسائل خاصة، لا أجد من المناسب إفشاء أسماء أصحابها لعدم الحصول على موافقتهم المبدئية على إعلانها، إلا أنني لا أجد مانعا من نشر بعض محتوياتها.
في يوم 20 مارس 2007، وصلتني رسالة إلكترونية من باحث موريتاني كان يتابع دراساته العليا في القانون ببلد أوروبي، أورد فيها:
"لقد قرأت الموضوع الذي تفضلتم مشكورين بإرساله وقد أعجبني شكلا ومضمونا وخصوصا التوثيق المتناهي لكل الإحالات والمتابعة الدقيقة لجل العيوب التي شابت تشريع هذه المرحلة الذي تميز بالارتجالية.. والذي ينم عن اطلاع كبير من جانبكم يندر مثله بين من يعتبرون أنفسهم مهتمين بهذا المجال في بلدنا".
وفي يوم 12 شتنبر 2010 كتب لي كاتب ضبط أديب: "مباحثك على قدر الفصول، ومقالاتك ضاربة في القدم مضارعة للعصر جامعة بين الأدب ولغة القانون وبين السجع والرمزية انصهر كل ذلك صهرا فجاء يردد مأساة القطاع، قطاع العدل وانقطاعات الإنصاف. لقد أعجبني كتابك فقرأته مستحضرا الواقع الذي تكتب عنه بملائكته وشياطينه، بظالميه ومظلوميه فتضاعف الإمتاع."
وفي يوم 4 نوفمبر 2010، وصلتني رسالة إلكترونية من قاض شهير، ليس لي معه سابق عهد ولم أتشرف بلقائه بعد، جاء فيها:
"تحية طيبة، لقد قرأت بعضا مما أثرتم من نواقص القضاء في الحلقتين المنشورتين في موقع الأخبار فجزاكم الله خيرا على هذا السعي الجاد من أجل إصلاح حقيقي للقضاء ولو ببث واقع مر لكن كما يقول المثل الحساني "ما يداوى المر ماه باللي أمر من".. هذه ضربات موجعة في أجسادنا نحن القضاة ولكن يجب صبرها لعل وعسى أن تساهم في علاج ما هو أمر منها وأكثر إيلاما وعل وعسى أن يوفق الله من حاشية الرئيس من يبلغه عن الواقع المر الذي يعاني منه هذا الجهاز الحساس.. ونحن نشجعكم على هذا المسعى.". ويجدر بالذكر أن كاتب هذه الرسالة هاجر للعمل خارج البلاد!.
وتعليقا يتعين أن نعتبر بأن المسؤوليات العامة ومنها القضائية ملك للجميع ولا قائل بتعصب من يشغلونها لأنفسهم.. وقد أوردت في المصنف كيف أصدر أحد القضاة تعميما بمنع محام من دخول قصر العدل فما لبثنا حتى عين الممنوع رئيسا مباشرا للمانع.. بعد أن بدأ الموريتانيون يألفون تبادل القضاة والمحامين على المناصب القضائية لم يعد ثمة موجب.. حسب المسؤول أن يستحضر القول المأثور "لو دامت لغيرك ما وصلت إليك".
6.
أخبرني زميلي المحامي غالي محمود بأن الدكتور محمد ولد مولود، رئيس اتحاد قوى التقدم، اهتم بكتابي.. لم يهتم به لأني ألفته فالرئيس لا يعرفني.. لكنه فيما يبدو يقدر الكتب.. تمثلوا معي أحدكم يكتب رسالة تكلفه جهدا ولكن المرسل إليهم يغلقون الأبواب ويرفضون مجرد استلامها.. فلا غرو أن يسترعي الاستثناء الانتباه.
وبينما كان تجاهل مصنفي سيد الموقف في البلاد أبلغني مدير إحدى المكتبات الوطنية أن مكتبة الكونغرس الآمريكي – التي تعد أكبر مكتبة في العالم - اقتنت كتابي وغيره.. لن أسترسل في مدح الولايات المتحدة الأمريكية لأنني ذكرت مأساة محمدو ولد صلاحي.. فقط للرفع من معنويات الكتاب، بعد الإحباط الذي سببته هذه الحلقة، سأختم، في الحلقة القادمة، بقصة نجاح موريتاني في جزيرة غير بعيدة من أمريكا.
الحلقة الموالية والأخيرة: فتح موريتاني في غوانتانامو.
المحامي/ محمد سيدي عبد الرحمن إبراهيم - الحلقة 2 من 3 -