بدأ أهل فن الممكن (أهل بلتيك) في موريتانيا بداية التسعينات من القرن الماضي الحلم بموريتانيا جديدة تتساوى فيها الفرص بين أبنائها مع ظهور الإرهاصات الأولى للديمقراطية، حيث كان ذلك التوجه بعد خطاب الرئيس الفرنسي الراحل فرنسوا ميتران في قمة فرنسا – إفريقيا والتي انعقدت 1990 ببلدية لابول الفرنسية.
في تلك الفترة لم تكن هنالك في البلد طبقة سياسية متعلمة وإنما بعض من ناضلوا ضد المستعمر والجزء الآخر تمثل في من تكون في ثقافة حزب الشعب، و كان وقت المواطن لا زال سلوكه محكوما بثقافة المخزن.
منذ تلك الفترة تكونت أحزاب سياسية موالية وأخرى معارضة يحكم توجهها جميعا حب الوطن والسهر على مصالحه، مع عدم الوضوح في تموضع شخصيات عرفت قبل بالقرب من الأنظمة الحاكمة وعدم بروز الأحزاب ذات المرجعيات الدينية والقومية. وبعد فترة قليلة من بداية تلك التجربة بدأت تخرج من رحم تلك الأحزاب أحزاب ذات مرجعية قومية دون الدينية منها.
يرجع الفضل في تلك التحولات مع علاتها إلى الرئيس ولد الطايع، وقد اقتصرت وقتها الأحزاب المعارضة على حزب التكتل واتحاد التقدم مع احتضانهما لمكونات سياسية أخرى فاعلة وجدت النور في فترة لاحقة.
بعد الانقلاب على حكم ولد الطايع من داخله بدأت تظهر ملامح الجمهورية الثالثة والتي وقتها تصورناها بداية تحول جذري في البلاد وهو ما تقاسمته معنا المنظومة الدولية، حصلت وقتها قناعة عند ساكنة البلد والمنظومة الدولية أن حصول مرحلة انتقالية دون أن يكون للعسكر تدخلا فيها مع ما يمتلكه البلد من مقومات ستكون لا محالة انطلاقة لتنمية شاملة وتجربة يجب أن تحذوها دول المنطقة.
لقد خرجت موريتانيا من مرحلة انتقالية ناجحة بكل المقاييس وخرجت بمؤسسات دستورية من أحسن ما عرفته البلاد، حيث كانت المعارضة ممثلة بشكل جيد على الأقل في بداية تلك المرحلة. إلا أنه وفى فترة وجيزة بدأت المعارضة تفقد الكثير من ممثليها في تلك المؤسسات لتعلق الفرد الموريتاني بالنظام الحاكم وسوء اختيار الأحزاب لمرشحيها وقتها.
بعد الانقلاب على أول رئيس منتخب شرعيا خرجت المعارضة ممثلة في حزب التكتل داعمة للانقلاب، وهو ما يتعارض مع الديمقراطية وما لم يكن يتوقع من حزب ناضل من أجل الديمقراطية ويمثل المعارضة التاريخية في البلاد.
بعد انقلاب 2008 يجب إعادة النظر في تشكل وتموضع الأحزاب الموريتانية في الموالاة والمعارضة، حيث أن المعارضة في البلاد لا يجمعها في الغالب سوى كراهية الحاكم والرغبة في الحكم. وقتها دخلت البلاد في أزمة سياسية معروفة لدى الجميع خرج منها الشركاء السياسيون في البلد باتفاق دكار وتمت بعدها انتخابات رجعت بالبلاد إلى المسار الديمقراطي.
إذا نظرنا إلى المعارضة اليوم وبعد ما تقدم من العرض يتضح لنا بأن النهج المتبع من طرفها لا يعود في غالبه إلى معارضة البرامج المقدمة والمنجزة من طرف الحكومة، ومنه يمكن أن نصنف المعارضة إلى:
- المعارضة التقليدية والتي تضم التكتل واتحاد التقدم، حيث يسعى التكتل إلى الحصول على الحكم وتسيير الشأن العام كهدف أساسي وإلى إشراكه في الحياة السياسية من خلال المؤسسات الدستورية كهدف في المرتبة الثانية وهو حزب أصبح يحوى في قيادته رموزا من نظام ولد الطايع مما يترك السؤال مطروحا حول مستقبل الحزب في العقد القادم.
- أما حزب اتحاد قوى التقدم فقد ظل دائما معارضا في مواقفه على الأقل في ظاهرها مع استقباله هو الآخر لشخصيات وازنة من نظام ولد الطايع والتي تربطها العقيدة السياسية مع الحزب، مع أن الحزب نخبوي فمستقبله يبقى غامضا مع تقدم الخط الأول منه في السن وعدم تشرب الخط الثاني من المرجعية العقائدية للحزب.
المعارضة التي تتموضع حسب المصالح الحزبية والتي تضم غالبية الأحزاب المعارضة حيث تتحول من طرف إلى الآخر حسب مصالحها مع النظام والتي كانت في الفترة الأولى للنظام القائم موالية أو قريبة منه، إذ تتفق معه في بعض الأحيان في جزء من سياساته على أن تقدر ذلك كافيا لتكون موالية وفى أحايين أخرى تسعى إلى الحصول على جزء من الكعكة من خلال المشاركة في تسيير الشأن العام وهو ما أستغله النظام في تفكيك تلك الأحزاب أو على الأقل إضعافها لتأخذ مكانها من جديد في المعارضة.
ويضم هذا الصنف من الأحزاب المعارضة حزب تواصل والذي يختلف عن هذه الأحزاب في جوانبه التنظيمية وقدرته على البقاء متماسكا ورغبة المعارضة التقليدية في بقائه داخل السرب لقوة الحضور وقدرته على تحريك الساحة السياسية وهو لا محالة ما سيعطيه مستقبلا واعدا خاصة إذ ما أخذ بتجربة الأحزاب الأخرى ذات المرجعية الدينية في المنطقة العربية.
أحزاب ما يسمى بالمعاهدة والتي تمثل نوعا من المعارضة تختص بقبول النظام للتعاطي معها دون أن تحصل عنده القناعة بالتعامل معها كمعارضة وازنة وحاجته للتعامل على الأقل مع التحالف كحزب معارض تقليدي والتعامل مع الوئام من خلال المكانة الخاصة لرئيسه في الحياة السياسية للبلد كجسر للتعاطي مع الجزء الآخر من المعارضة، وهي أحزاب لا محالة مع استمرار حالة الشد القائمة بين المنتدى والموالاة ستكون ملزمة بإعادة التموضع في الموالاة أو في المعارضة.
لقد تمكن النظام من جلب هذه الأحزاب إلى حوار أدى على الأقل إلى التخفيف من الاحتقان السياسي قبل الانتخابات الأخيرة وهو ما نجح فيه النظام نوعا ما من خلال مشاركتها بالإضافة إلى حزب في تلك الانتخابات والتي تم تسويقها على الأقل دوليا، وبالتالي تم بعده تحييد الزعيم التقليدي ولد بلخير عن المشهد السياسي من خلال تعيينه كموظف سام لدى الحكومة القائمة ليبقى مستقبله السياسي غامضا على الأقل في المستوى القريب، وهو ما يعطى فرصة جيدة للسيد برام ولد اعبيدى ليخلف الرجل والذي لا محالة أسهمت نتيجته في الانتخابات الأخيرة ووجوده حاليا في السجن في ذلك.
لا يمكن أن نتطرق للمعارضة الموريتانية دون الحديث عن المنتدى الوطني للوحدة والديمقراطية والذي لا يمكن أن نجد تشكلة مماثلة له على مستوى المعمورة إلا في موريتانيا، حيث يضم منظمات المجتمع المدني والنقابات والتي في أنظمتها الداخلية وحسب المتعارف عليه في جميع القواميس أنها لا سياسية، والشخصيات المسماة مستقلة، والتي لا يمكن قبولها إلا إذا كان المقصود بذلك عدم الانضمام إلى الأحزاب السياسية بالإضافة إلى الأحزاب السياسية التي تعرضنا لها سابقا.
في قراءة قد تكون مستغربة نرى بأن المنتدى يعتبر عائقا دون أن تلعب المعارضة دورها السياسي من خلال توضيح نقاط الضعف على مستوى البرامج الحكومية وتقديم خطاب سياسي يتعدى التعرض لشخص الرئيس إلى برامج تمس حياة المواطن. حيث قد يستغرب عدم دخول هذه الشخصيات في كل هذه الأحزاب المعارضة وأن تكون الهيئات الأخرى معارضة تحت يافطة أحزابها من منطلق أن كل الشخصيات المنضوية تحت منظمات المجتمع المدني والنقابات تنتمي إلى أحزاب سياسية معارضة، حتى تكون الحياة السياسية للبلد طبيعية.
لتلعب المعارضة دورها الطبيعي يجب على القائمين على هذه الأحزاب أن يقوموا بعملية النقد الذاتي ومراجعة البرامج والسياسات وتقديم مشاريع مجتمعية من خلال خطاب سياسي واع وواعد يأخذ بالفعل خصوصية المجتمع الموريتاني والمشاكل الفعلية المعاشة من قبل الموطنين، وأن يتم الاندماج بين هذه الأحزاب للخروج بمعارضة مكونة من ثلاثة إلى أربعة أحزاب على الأكثر تكون وجهاتها تعطى الثقة للمعارض والموالى في مستقبل البلد.
والله من وراء القصد
د. محمد ولد عبد الله - [email protected]