عاصمتنا تغرق في النتن، ومثقفونا يغرقون في عفن الأنا والقبيلة والجهة، والشعب تفتك به النعرات العرقية والطبقية، على شفا حرب ماحقة، لم يعد هناك في وطننا ما يستحق الحياة، وللأسف ليس فيه ما يستحق الموت في سبيله، تبدو خطة نزار قباني أكثر إغراء هذه الأيام في مدن البؤس المقنَّن ـ شخصيا اعتمدتها رسميا إلى حين ـ :
قرّرتُ يا وطني اغتيالَكَ بالسفَرْ
وحجزتُ تذكرتي
وودّعتُ السّنابلَ، والجداولَ، والشَّجرْ
وأخذتُ في جيبي تصاويرَ الحقول
أخذتُ إمضاءَ القمرْ
وأخذتُ وجهَ حبيبتي
وأخذتُ رائحةَ المطرْ..
قلبي عليكَ.. وأنتَ يا وطني تنامُ على حَجَرْ (أما وطني فيتنفس ملء رئتيه سهادا في مستنقع آسن).
هناك من سيتهمني بـ"انعدام الوطنية" وسيطالبني بالاعتذار للوطن، أعرف أسماء أولئك وألمح الآن وجوههم المشربة بؤسا وتبغا وخيانة، مقدما، لن أعتذر لهم ولا لوطن أنفقت كل أيامي محدقا في وجنيته، أخادع نفسي بأنهما تحملقان وتتحركان بجد، لأكتشف أخيرا أنه ينظر إلي بعينين ميتتين، وأني كنت أعبد منسأة سليمان.
ماذا يعنيه وطن عاصمته نواكشوط، لعنة المحيط التي انحسر عنها منذ أحقاب عديدة، لم يحتمل بقاءها بين أحشائه، فبصقها متأففا، لنكتشفها نحن أبناء الرمل، عقدتنا من قلة الماء في الصحراء، دفعتنا إلى التقري بمنبوذة الأطلسي، ذابت قيمنا في سباخه الأجاج، وقتلت طباع دلافينه نوازع الزوابع في أرواحنا المتوفزة، لم نعد نبكي ولا نضحك، كيف نبكي ولا شيء عزيزا لنفقده وكيف نضحك ولا أمل في أن تنبت السباخ.
غرقت العاصمة، تحاماها المطر والحزن، اقتسما خطتيهما بإنصاف نصف تغرقه السماء ونصف تغرقه الدموع.
إذا كانت لندن عاصمة الضباب، وباريس عاصمة العطور فانتِ، أيتها العاصمة النتنة، أنتِ عاصمة القمامة المبلّلة.
نتنفس تحت الماء الرنق العفن، ونصبح على مدح المستبد، شعب لا يستحق الحياة، ولا يقيم وزنا لقيم الحرية، وعاظنا يحملوننا مسؤولية فساد الأمير، لو استقمتم لما ابتليتم بظالم، ويعظوننا كل جمعة بأن ظلمه نعمة من الله، لأنه لم يرم بنا في السجون، يمنون عليك بحرية القول،كما يمن الراعي على قطيعه بأن ترك لك حرية الثغاء.. أف لكم ولما تعبدون.
(٢)
يؤسفني أن تجد "مثقفا" يستفسر مدونا أو كاتبا على الملإ الالكتروني، هل كان يعنيه بكلمة كذا وكذا في تدوينته التي كتب يوم كذا وكذا، وكأنه يستجدي الناس أن لا يلمسوا ورمه المرضي، الذي يألم بمرور النسيم.
سادتي الكرام، ما فائدة هذا الفضاء إن لم تختلف فيه الآراء وتنتقد المواقف!.
ما الفرق بين "المثقف" وغيره إذا كان يحملان نفس الموقف الذاتي الأناني ويقومان بنفس السلوك! أو ليست الثقافة هي تهذيب فردي داخلي كما يقول بيجوفيتش، إذا كان كل واحد من الاثنين ينتج أفكاره ومواقفه في أفق واطئ، ويبني مواقفه دون استشارة مخزونه الثقافي فبم استحق الأول اسم مثقف وحُرِمَه الثاني! هنا ينبغي أن نسمي الأول "حامل أسفار"، وهو مدان أخلاقيا عكس الإنسان العامي، الأول يسيء للمعرفة أما الثاني فلا يسيء إلا إلى نفسه فقط.
لقد أفلس خطاب ما نسميه نخبة لدرجة مؤلمة ومثيرة للاشمئزاز، لم تعد تملك أفكارا نبيلة ومفيدة للمجتمع، فأنتج الفراغ الداخلي عندها أفكارا قمئةً، أخطر شيء تواجهه المجتمعات والدول هو فراغ المثقفين، إنهم بذلك يتحولون إلى برك راكدة تتكاثر فيها الجراثيم والأوبئة،
المراسلات السجالية لنخبتنا العظيمة، تؤكد أنهم لم يتبنوا منذ ولدوا إلا إيديولوجيا القبيلة وأمجادها الوهمية، كل الانتماءات الفكرية التي يعلنون هي مجرد عناوين محلات تجارية للشحت.
لغة النقائض لم تكن يوما مرجعا رئيسا للاستشهاد العلمي ـ رغم وقوعها في زمن الاحتجاج ـ، هي ليست أفكارا للنقاش لكنها سيلٌ دافق من "حمض العاطفة" الذي يساهم في تحلل قيم الخطاب المسؤول، هي إعلان لنهاية الحوار الجاد وبداية حرب السكاكين، ربما تكون حرب السكاكين أكثر قيمة اجتماعية، إنها انفعال جاد يترك بعده سيلا من الدماء والجراح كثيرا ما يستدر عواطف المتحاربين، يثير إنسانيتهما المنتهكة في لحظة غضب ريفي بريئ، فيتعانقان في حميمية، هي خير ألف مرة من حزازات تمكث في القلب سنين عددا.
نقلا عن صحيفة "الأخبار إنفو"