اليوم الآخر، أي يوم!/ سيد محمد ولد اخليل

أحد, 2015-09-27 22:59

هو اليوم بعد أن كان يدعى بأحب أسمائه إليه، يشترك مع الأموات في اسم واحد مثير للرهبة "الجنازة".. حملته الأعناق إلى قبره الضيق الصغير بعد أن لفظته الحياة.. تبعه ثلاثة، رجع اثنان وبقي واحد مؤنس أو معذب.. رجع أهله بالحسرة على فراقه والإستعداد لنسيانه، ورجع ماله الذي تعب في جمعه وترتيبه، وبقي عمله الذي يتمنى لحظتها صلاحه..
أصبح في أمس الحاجة إلى دعاء الصالحين بعد أن انقطع غيث أعماله، ولم يبق له غير دعوة صالحة يدعو بها ولد صالح، أو صدقة حية تعيش من خلفه، أو علم يُنتفع به بعده..
كان أيام حياته ينفض الغبار عن ثوبه، ويأنف من الأوساخ، فبات ملقى في حفرة ضيقة مظلمة، أهال عليه التراب فيها أحب الناس إليه حتى توارى جسده المنهك عن الأنظار، ولم يبق منه سوى شاهد قبر يذكر الأحياء بالموت..

حياة دنيوية قصيرة بدأت بطفولة مرقت من العمر كطائر صغير يبحث بجناحيه في فضاء البراءة والغفلة، تلتها مرحلة تكليف لاحت في عالم الخلود كسراب بلا معالم، بدأت بشباب متوقد أطفأته السنون..
لم يحصل من الدنيا أبدا على أكثر مما كُتب له، لم يضحك أكثر من وسعه، ولم يشبع أكثر من وسعه، ولم يعيش أكثر من وسعه !.. لم يدرك أنه سيموت بعد حياة قصيرة مليئة بالآلام والأحزان، أنساه الشيطان فيها الحساب، وأوهمه انه خُلق لينهل من الشهوات والشبهات..
اختار طريق السوء، ورضخ للإغراءات، وتناسى أن ربه جعل له في الحلال غنى وطمأنينة لا يجدها الزاني ولا السارق ولا غيرهما من العصاة..
تناسى أن الحياة الخالدة في جنة النعيم خير من هذه المحطة الكئيبة التي تومض بخفوت في بحور من الظلمات، سيقول أهلها حين يسألون عنها إنهم لم يلبثوا إلا يوما أو بعض يوم !..
لم يأخذ دينه بقوة كما أُمره ربه.. تهاون بالطاعات، واستخف بالحرمات، ورضي بالدون والقاذورات..
لم يحرص على غض بصره، اتبع خطوات الشيطان التي أوقعته في حفر المخالفات، استسهل النظر والحديث والمخالطة فوقع في المحظور، استسهل اختلاس القليل فوقع في شؤم نهب الكثير.. لم يواظب على صلاة الجماعة، ولم يضع أسس بناء قصره الجميل في الجنة..
قامت قيامته يوم موته بعد حياة ترنحت كسحابة صيف قبل أن تفتت، استغرب هو نفسه سرعة مرور أيامها المتلاحقة، وتبدل أحوالها.. كان عهده بالشباب مزهرا متبخترا على أرصفة الحياة، فإذا به يُنكر نفسه في المرآة، لا الشعر شعره، ولا الوجه وجهه، ولا الجلد جلده، ولا الحياة حياته !
سالمته الأيام والليالي شهورا وسنين، ثم انقلبت عليه وغيرت معالم حياته، اقتلعت لأعمدة وأطاحت بها بعيدا.. مات الأبوين، والولد والصديق، وتبدلت المنازل، وصاح النذير..
عصف القدر بعالمه الصغير مسقطا أوراق شجيرته المزهرة بالآمال والأحلام، ثم اقتلعها من جذورها، وأطاح بها بعيدا عن حديقة الدنيا.. 

وفي ذلك اليوم الآخر، يبعث الله عز وجل مطرا فتنبت الأجساد كما ينبت النبات، ويُنفخ في الصور، وتنشق الأرض عن الأموات الأحياء فيخرجون من قبورهم، وهم يعتقدون أنهم لم يلبثوا غير قليل، يحشرون حفاة عراة غرلا، لا ظل يحميهم من وهج الشمس إلا ظل عرش الرحمن المخصص لعباده الصالحين، ولا ماء يروي عطشهم الخانق إلا ماء حوض نبيه صلى الله عليه وسلم، الأبيض من اللبن، والأحلى من العسل، الذي يُذاد عنه أهل البدع والظلمة وأعوانهم، يُمنعون من شربة لا ظمأ بعدها، فاحذر من هاتين الخصلتين..

تقترب الشمس المتوقدة من الرؤوس، ويُلجم العرق الأنفاس، وتقل القدرة على الإحتمال، ولا يعود للناس مطلب غير تعجيل الحساب لطول ذلك اليوم الذي كان مقداره خمسين ألف سنة..
يلجؤون إلى الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ليشفعوا لهم عند ربهم، فيدلونهم على نبينا الكريم، فيشفع لهم عليه الصلاة والسلام، فيُقضى بينهم بعد طول معاناة، وينعم المفلحون، ويبتئس الأشقياء..

خمسون ألف سنة فما بالك ببقية الأيام.. تتبدل الأحوال، وتتغير الأجساد والقدرات، ويصبح ضرس الكافر بقدر جبل أحد ليحتمل العذاب الذي لا يطاق!..
وفي هذه الحياة، إذا بلغ الواحد منا الثمانين زاحفا في مستنقع الأكدار والأمراض والتقصير ! قد يكون أمضي جلها في اللهو والطرب، والظلم، والخديعة، والمعارضة والموالاة، وحقوق العبيد والأحرار، وآمال الدكتوراه، والأدب، والفن، والتمثيل، وأحلام النجاح الشيطاني العابر !..
أوهام تمر كسراب بعيدا عن تقوى الله، وتقديم دينه وجنته على ما سواهما..

يغضب الله عز وجل في اليوم الآخر غضبا لم يغضب مثله، ولن يغضب مثله، يقول جل وعلا: "لمن الملك اليوم؟"، فتجيبه الخلائق المستكينة: "لله الواحد القهار".. تتلاشى أوهام الغرور البراقة، وينكمش الرؤساء والوجهاء، ويتجلى الضعف والحاجة إلى الأعمال الصالحة، وإلى رحمة رب العباد..
تنكشف حقائق النفس الأمارة والهوى والشيطان.. وتشهد الجوارح والجلود على المجادلين، يختم الله عز وجل على الأفواه، وتنطق الأرض بما كان يجري على ظهرها.. 

توزن الأعمال بميزان العدل، فتتطاير الصحف نحو أصحابها، فبين آخذ لكتابه بيمينه، فرح بمصيره، وبين مبتئس آخذ لكتابه بشماله من وراء ظهره، نادب لحظه، جهنم هي مآله!.. 
يوضع الصراط على النار، فهو أدق من الشعرة وأحد من السيف، ويمر عليه كل الناس، فمنهم من هو كالبرق في مروره، ومنهم من هو دون ذلك، ومنهم من يزحف بعناء، وعليه كلاليب تخطف المجرمين إلى النار..

وأول ما تسعر النار بثلاثة: رجل عمل عملا حسنا، وآخر خرج للجهاد، وآخر أنفق في سبيل الله، وكلهم مراء يريد ثناء الناس، ولا يقبل الله تعالى من الأعمال إلا ما كان خالصا صالحا، الخالص ما أريد به وجه الله عز وجل وحده، والصالح ما كان على سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، يخرج بذلك كل عمل أريد به غير الله، وكل بدعة محرفة للدين..

ثم يؤتي بالموت يوم القيامة على هيئة كبش فيوضع بين أهل الجنة والنار، ويذبح أمام الجميع، ويُنادى مناد "أن لا موت بعد اليوم".. تبدأ الحياة الحقيقية التي يستحق الفوز بها كل همتنا وعنائنا ووقتنا الضائع أصلا إن لم نربطه بعبادة الله..

تبدأ الحياة الآخرة، وينعم أهل الجنة بما لا عين رأت ولا أذن سمعت من أصناف النعيم، أنهار من لبن وعسل، وجنان ظليلة، وقطوف دانية، أغصانها حانية، وحور عين يُرى مخ الواحدة منهن من وراء ساقها، وأزواج كانوا في الدنيا صالحين، وولدان طوافون بكأس لذة للشاربين، وملائكة كرام يسلمون على المؤمنين، ورؤية لرب العالمين، أعظم من ذلك كله..
حياة طيبة مع خير الناس وأحمدهم صحبة، في عالم رائع مبارك لا تشوبه شوائب الفناء، عالم بلا أمراض ولا تقصير ولا أحزان، فيا لها من دار، ويا لسعادة بانيها في هذه الدار..

وفي مقابل ذلك العالم، عالم مظلم كئيب، رهيب، جُمع فيه شرار الخلق إلى إبليس، لا طعام فيه ولا شراب إلا من زقوم وحميم يقطع أمعاء التعيس.. عذاب لا نهاية له، وصراخ وعويل، وحريق كلما نضجت جلود أصحابه بُدلوا جلودا غيرها ليذوقوا العذاب، وعقارب وحيات كالجبال، يا لضرباتها من ضربات.. أقصى ما يمكنك تخيله من أنواع العذاب يوجد في ذلك المكان الذي لا راحة فيه ولا نجاة.. جعلني الله وإياك من أهل السلامة، وأعاذنا من عذاب النار.. قل آمين..

ملاحظة: أصل هذه الخاطرة محاضرة لداعية موريتاني، أحببت أن أعلق عليها لعظم فائدتها..

سيد محمد ولد أخليل
[email protected]

 

اقرأ أيضا