تسعة باحثين يرصدون حدود التماس بين الدين والسياسة في المغرب

أحد, 2015-10-25 01:10

الرباط ـ «القدس العربي»: الطاهر الطويل ما هي أبرز معالم التدين السائدة في الساحة المغربية اليوم؟ وكيف يمكن فهم حركية التدين هذه بالنظر إلى طبيعة التحولات الاجتماعية والقيمية الجارية على مستوى الواقع، محلياً وإقليمياً؟ وأية تأثيرات لأنماط التدين القادمة من الشرق الإسلامي على طائفة من المغاربة؟ ومن هم الفاعلون الرئيسيون في المشهد الديني بالمغرب؟ وما هي العلاقة الموجودة بين الممارسة الدينية والعمل السياسي في ضوء تلك الحركية؟
أسئلة من بين أخرى كثيرة يحاول أن يجيب عنها تقريـــــر «الحالة الدينية في المغرب» الصادر حديثاً ضمن منشورات مركز المغـــرب الأقصـــى للدراسات والأبحاث في الرباط، وهــــو تقرير يرصد المشهد الديني بالمغرب بعد ثــــورات «الربيع العربي»، والتي تمخضت عنها في المغرب حركة 20 فـــبراير. هـــذا العمل الفكري الميداني (385 صفحة من القطع المتوسط) عبارة عن مسح وتشخيص للموضوع المذكور، أنجزه تسعة باحثين: منتصر حمادة، سمير الحمادي، حسام هاب، سناء القويطي، بدر الدين الخمالي، محمد بوشيخي، عبد الحميد بنخويا، عبد الرحمن الأشعاري، سناء كريم.
يسجل التقـــرير أن مشـــــروع الحركات الإسلامية في المغرب يندرج في سياق «أسلمــــة» الدولة والنظـــام والمجتمــــع، وأن معــــالم هذا المشروع تتوزع إلى خيارات ثلاثة على الخصوص: ما بين الخيار الدعوي (نموذج «الدعوة والتبليغ» مثلا، ومعها التيـــارات السلفية)، أو الخيار السياسي (نموذج حركات وأحـــزاب «الإسلام السياسي)، أو الخيار «الجهادي» (نموذج الحركات الإسلامية «الجهادية»).
ويرى واضعو التقرير أن الإسلاميين المغاربة لم يكونوا بعيدين عن مجريات التحول الاستراتيجي الذي شهده الواقع العربي بعد ثورات 2011، فبفضل الدينامية الاحتجاجية التي أطلقتها «حركة 20 فبراير»، تمكن حزب «العدالة والتنمية» (الإسلامي) من تحقيق سبق تاريخي بالوصول إلى مربع السلطة لأول مرة، أما السلفيون الذين وجدوا أنفسهم على محك الاختبار، فقد انقلب حالهم رأسا على عقب، وطرأت تحولات جذرية وغير مسبوقة على بيتهم الداخلي وخلطت أوراقهم بالكامل.
بين الدعوة والسياسة

خلال التطرق إلى الحركات الإسلامية المعنية بالعمل السياسي، وبدرجة أقل العمل الدعوي، ولو أنه يصعب الفصل بين العملين أو الخيارين، لفت التقرير الانتباه إلى وجود تحالف استراتيجي بين «حركة التوحيد والإصلاح» و»حزب العدالة والتنمية»، إلى درجة القول بوجود تماهٍ بين التنظيمين، بالرغم من حديث أدبيات الحركة والحزب عن الفصل والتمييز، لولا أن هذا الثنائي، ومعه أداء لائحة عريضة من الجمعيات والمنظمات الموالية والمحسوبة على التنظيم، يؤكد لأهل مكة ذاتها (الحركة والحزب) قبل تأكيد ذلك للمراقبين والباحثين والمنافسين وصناع القرار أن الأمر يتعلق بتماهٍ تنظيمي محكم، يندرج في سياق الانتصار لمشروع إسلامي حركي، ضمن مشاريع إسلامية حركية موازية ومنافسة، وبالرغم من أنها تمثل أقلية تنظيمية في الساحة المجتمعية بشكل عام، إلا أن لها حضورا سياسيا وإعلاميا ومجتمعيا.
بالنسبة لجماعة «العدل والإحسان»، غير المعترف بها رسمياً، والتي تتميز أساساً بأنها حركة إسلامية مغربية خالصة، أخذت مسافة نظرية وتنظيمية من إسلاميي الشرق، وتحديدا من «التنظيم الدولي للإخوان المسلمين»، كما تتميز بتبنيها منذ مرحلة التأسيس، خيار اللاعنف وتطليق السرية، فإنها لا تخرج هي الأخرى في مشروعها الحركي عن التماهي بين العمل الدعوي والعمل السياسي، بالرغم من إحداث هيئات تنظيمية ناطقة أو منظمة لهذا القطاع أو ذاك.
ومثلما يلاحظ واضعو التقرير، فإنه لا يمكن اختزال العمل الإسلامي الحركي مغربياً في «حركة التوحيد والإصلاح» و»جماعة العدل والإحسان»، لأننا نعاين ثلاث حركات إسلامية مغربية، تتجه يوما بعد يوم نحو الهامش، تاركة المجال لتنظيمين بارزين يصنعان الحدث الإسلامي الحركي، سواء تعلق الأمر بالعمل الإسلامي الحركي أو السياسي، ضمن فضاء ديني أشمل وأكبر، يضم لائحة من الفاعلين الدينيين، بدءا بالمؤسسات الدينية التي تسهر على تمرير سياسة الدولة وصانعي القرار في الشأن الديني، وانتهاء بالفاعل الديني الصوفي الذي يعتبر ـ بقوة الواقع وبأوراق المؤلفات والدراسات ـ أهم فاعل ديني في هذا المجال التداولي الإسلامي؛ مرورا عبر الفاعل الديني السلفي (الوهابي تحديدا، سواء كان محسوبا على مرجعية علمية أو حركية أو «جهادية»).

السلفية التقليدية

ويؤكد التقرير أيضا أن التيار السلفي عموماً ليس بنية فكرية متماسكة ومتجانسة، وإنما هو مظلة مكونة من مجموعة مختلفة جدا من النماذج والتصنيفات اللاهوتية التي تتقاطع/ تتشابك خطوطها على نحو بالغ التعقيد، إذ منها المعتدل/ المنفتح في أحكامه ومظاهره، ومنها المتشدد/ الراديكالي في اجتهاداته، وهي على الرغم من توحّدها جميعا على مستوى المراجع والأصول الاعتقادية، فإنها منقسمة إلى حد التشظي في الفروع والجزئيات، وبينها من التنافر والتباعد في الرؤى والمواقف والسياسات ما يصل أحيانا إلى حد درجة التكفير والصدام والمواجهة.
وفي تحليل أحد الباحثين: لا يبدو أن هناك مشكلة بين السلفية التقليدية والنظام المغربي، ما دام أنها لا تتصادم، رؤية وسلوكاً، مع ثوابت ومسلمات السياسة الدينية، بل إنها تعتبر ورقة رابحة في يده: أولا، لأنها تتوافق مع المقاربة الرسمية للشأن الديني التي تتأسس على عنصرين مركزيين: عنصر الوصل بين الدين والسياسة على مستوى الملك، بوصفه أميرا للمؤمنين، فبهذا الوصف يحق للملك وحده أن يجمع في شخصه بين الصفة الدينية والصفة السياسية، وعنصر الفصل بين الدين والسياسة على مستوى باقي الفاعلين، بحيث لا يجوز لأي فاعل سياسي أن يتدخل في قضايا ذات طبيعة دينية. كما لا يجوز لأي فاعل ديني أن يتدخل في قضايا ذات طبيعة سياسية. وثانيا: لأن السلفية التقليدية بالذات لها قابلية عالية للاستخدام السلطوي، خصوصا في مواجهة الفاعلين الدينيين المناوئين لسياسات الدولة الذين يطالبون بالتغيير من خارج النظام، وهو ما جعلها محط أنظار الدولة منذ وقت مبكر؛ بحسب تقرير «الحالة الدينية في المغرب».
عند الانتقال إلى «السلفية الجهادية»، تمت الإشارة إلى أنه بعد الانفراجة التي شهدها ملف معتقلي «السلفية الجهادية» في العام 2011، في سياق الإصلاحات التي جاء بها «الربيع المغربي»، والتي جسدها اتفاق 25 آذار (مارس) 2011 الذي وعدت من خلاله الدولة المعتقلين بالإفراج عنهم على دفعات، ظن الجميع أن هذا الملف الشائك في طريقه أخيرا إلى الحل، بعد تعدد المبادرات لم ينته إلى نتيجة، لكن هذا الظن لم يكن في محله، إذ سرعان ما وُضع من جديد على قيد الانتظار، ليعود الوضع إلى ما كان عليه خلال السنوات الماضية. 
ومن جهة أخرى، يلفت التقرير الانتباه إلى حضور المغاربة في صفوف التنظيمات (الجهادية) في سوريا برز في وقت مبكر، وهو آخذ في التزايد، والحديث في الكتاب يقتصر على الذين يلتحقون بسوريا من المغرب، ولا يشمل الوافدين من بلدان المهجر الأوربي الذين يشكلون نسبة مهمة من إجماليّ العدد. غير أن هناك اتفاقا بين الزعامات السلفية في المغرب على معارضة وتحريم توجه المغاربة إلى سوريا لقتال نظام الأسد لاعتبارات شرعية وموضوعية متعددة، من بينها أن «الذهاب إلى سوريا أقرب ما يكون ذهابا للقتل وليس إلى القتال»، وأن «الشعب المغربي برمته وإن كان معنيا بالقضية السورية أخلاقيا وعاطفيا ودبلوماسيا ومعنويا، فهو آخر من يكون معنيا عسكريا وماليا وتجنيدا، لأنها آخر بلاد الإسلام استهدافا وأبعد بلاد الإسلام مسافة»، وأن «للسوريين علينا حق النصرة الإعلامية والدعوية ومقاطعة النظام السوري وطرد سفيره، لكن آخر شيء يجب أن نفكر فيه هو أن يذهب شبابنا إلى سوريا للقتال»، وهي هجرة «يترتب عنها ـ في حالات كثيرة ـ غياب رب الأسرة، حيث يتسبب ذلك في مشكلات اجتماعية لدى أزواج وأبناء أولئك (المجاهدين)»، لاسيما وأن التنظيمات (الجهادية) في سوريا ما فتئت تعلن بين الحين والآخر عن سقوط (شهداء) مغاربة في القتال ضد قوات النظام، وتنشر صورهم مع كلمات رثاء تبرز (شجاعتهم) الاستثنائية.

نموذج ناعم ومسالم

القائمون على تدبير الشأن الديني يعتمدون على التصوف ركناً أساسياً في عملية إعادة هيكلة الحقل الديني وفي تنزيل المحاور الكبرى للاستراتيجية المعتمدة في هذا الشأن والتي انطلقت في سنة 2004 بعد الهجمات الإرهابية التي ضربت مدينة الدار البيضاء في أيار (مايو) 2003، على اعتبار أن التدين الصوفي ينحو نحو الوسطية والاعتدال في طبيعة ممارساته، ويبتعد عن الخوض في الصراع والتدافع السياسي، فيما رأى الكثيرون في هذا التوظيف خطوة في اتجاه محاربة الوهابية والسلفية المشرقية وتضييق المجال عليها وأداة لمحاربة التطرف وتقديم نموذج ناعم ومسالم للدين، خاصة وأن السياق الدولي لما بعد هجمات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) في نيويورك وواشنطن والتحالفات الاستراتيجية التي نسجها المغرب مع القوى الدولية الغربية ولاسيما الولايات المتحدة الأمريكية كان يفرض هذا النوع من المقاربات في إطار ما سمي بالحرب على الإرهاب، من أجل مواجهة التطرف والتشدد الديني وإيجاد قوى إسلامية بديلة معتدلة خارج إطار منظومة الإسلام السياسي، تعمل على تشجيع قيم التسامح الديني، وتدعم العلاقات مع الدول الغربية، ولا تحمل أية أيديولوجية عدائية لسياستها في العالم الإسلامي.

الشيعة… عزلة سياسية

إذا كانت الممارسة النقدية للتراث المغربي، من جانب الفاعلين الشيعة، تروم «تبيئة» المذهبية الشيعية في الوسط الثقافي المغربي وطرح التشيع كــ»مكون ثقافي» أصيل، فإن الممارسة العملية أخذت في التجسيد الحي لتلك الأفكار لخلق فضاءات «للتدين الجماعي»، عبر إحياء وبعث التقاليد المغربية بمناسبة عاشوراء وأربعينية الحسين وتضمينها محتوى عقديا شيعيا، كما يأتي في نفس السياق محاولة تنظيمهم بشكل رسمي لأول زيارة لضريح المولى إدريس زرهون بمناسبة ذكرى عاشوراء (سنة 2011) بعد تعميم الدعوة على مواقع التواصل الاجتماعي لجعلها ملتقى سنويا يجسد وثاق المحبة لآل البيت. كما تكررت في العامين المواليين، حيث شهدت الزيارة قراءة القرآن الكريم، وترديد أدعية «مفاتيح الجنان» لصاحبه عباس القمي و»الصحيفة السجادية» للإمام علي بن الحسين، وتشهد هذه اللقاءات حلقات علمية تتناول دروسا ومواعظ دينية متنوعة، يخصص جانب منها لمحنة الحسين سبط الرسول محمد (ص) وأئمة آل البيت.
ويعيش الشيعة المغاربة حالة عزلة حقيقية داخل الحقل السياسي، إذ يشكل تشيعهم عامل ريبة لدى مكونات الساحة المغربية. فالإسلاميون، سواء كانوا في القيادة أو القاعدة، شأنهم في ذلك شأن الفعاليات السياسية الأخرى يرفضون كل تطبيع أو تقارب مع الشيعة، درءاً لتزكية اختياراتهم، واحتراساً من فتح منافذ للنفوذ الأجنبي بالبلاد، وحفاظاً على الوحدة الوطنية للمغاربة.
وإذا كان الشيعة في عمومهم لا يبدون ـ من جانبهم ـ أي انشغال بالتقارب مع القوى السياسية، إما لضعف إمكانياتهم البشرية والتأطيرية من جهة، أو لهيمنة الجانب العقدي لديهم، مثل مقلدي الشيرازي، وفردانيتهم مثل مقلدي السيستاني، وشدة احتياطهم كما هو لدى مقلدي خامنئي.. من جهة أخرى، فإن «الخط الرسالي» ـ من مقلدي محمد حسين فضل الله ـ بعث أكثر من مؤشر على قابليته للتفاعل الإيجابي مع القوى الفاعلة في المغرب، خصوصاً وأنه يعتبر نفسه «مبادرة مفتوحة» للعمل مع الجميع، وأنه «حالة فوق التعددية المذهبية والتموقعات الطائفية، يرتبط مستقبلها بمستقبل الفكر الأصيل والمتنور داخل الوطن».

إمارة المؤمنين.. إشعاع أفريقي

يعدّ الملك ذا سلطة سياسية ودينية ذات أهمية ينصّ عليها الدستور، باعتباره أميرا للمؤمنين، يتولى إدارة الشؤون الدينية في المملكة المغربية، وبصفته ينتمي إلى سلالة الرسول محمد (ص). كما يرأس سلسلة الدروس الحسنية خلال شهر رمضان. وبالنظر إلى ما قام به من إصلاحات وجهود لعصرنة المغرب ومكافحة الإرهاب ومقاربته لإشكالات الفقر والهشاشة. وللملك أيضاً تأثير مواز على أتباع المذهب المالكي في القارة الأفريقية التي ترتبط دول كثيرة منها بالمغرب الذي يضم ضريح الشيخ الصوفي مؤسس الطريقة التيجانية أحمد بن محمد التيجاني الحسني، علاوة على ذلك، يقود الملك محمد السادس أكثر الملكيات الدستورية استقرارا في المنطقة، بفضل ما في ثقافته الإسلامية من اعتدال.

اقرأ أيضا