هل سد الباب في وجه الاستقرار بالبلد؟

سبت, 2015-10-31 00:12

ليس من قبيل الافتئات القول أننا نواجه مصيرا مجهولا. فقد كان لدينا طريق وحيد بين وضعيتين: وضعية خراب يمكن ترميمه بصعوبة وبجهودنا مجتمعين، ووضعية تسوق البلد إلى دمار لا يمكن تحديد مداه. وها نحن نضل الطريق. إننا بذلك نتوقع فشلا مذهلا وغير متوقع.

الموريتانيون يتغاضون -عن تعمد أو لجهل- عن حقيقة ماثلة؛ هي أنه عندما تضغط  روسيا والصين بشكل نهائي لحل أزمة سوريا، فلابد من تفجير منطقة أخرى في العالم. وتوجد موريتانيا على خط توتر عالٍ وواسع. حدود كبيرة على اليابسة وعلى الماء: قرابة 6000كلم متاخمة لعالمين أفريقي وعربي ومطلة على أوربا، وحدود متشابكة مع دول فاشلة وأخرى هشة وأخرى أوضاعها غير نهائية، ومنطقة صراعات عرقية وحدودية ودينية، ورهانات دولية، والفقر والمخدرات وتحديات "الإرهاب" والديمقراطية. إنها أوضاع مغرية بقوة الانفجار لمثل هذه المناورات الجيوبوليتيكية الكبيرة.

إن العالم الحديث يتغذى على كذبتين: كذبة الإرهاب حيث أنفقت أمريكا 500 مليون دولار على تسليح وتدريب 600 قاتل في سوريا، وتطالب بوقف الإرهاب!!. وكذبة حماية حقوق الإنسان والديمقراطية حيث يدمر الغرب  المؤسسات والشرعيات في دول مثل العراق وليبيا وسوريا  من أجل حقوق الإنسان ويأتي ببدائل أسوأ تتمثل في عدم الاستقرار وانعدام أي مؤسسات!!. وللأسف نقع ضمن دائرة هاتين الكذبتين، مع الكذبة الخاصة بنا التي نعيشها منذ الاستقلال (كذبة الدولة الموريتانية)، فالأسس التي تجعلنا شعبا واحدا غير عميقة وغير قادرة علي الصمود في وجه النـَزعات.

إن الشرعيات القائمة كانت تستمد قوتها من التاريخ والمفاهيم المرتبطة به التي أضحت  مثار جدل واسع اليوم، وقد صارت -بفعل المطالب الحديثة- شرعيات بالية، خاصة أن الثقة بقيم المساواة والعدالة لم تشهد أي تطور خلال مسيرة الدولة، ولا توجد معايير عامة ينتظم حولها الناس وتشكل وحدتهم. فالأنظمة المتعاقبة لم توفر أي حماية ثقافية ولا فكرية لذلك التراث المنهوب. إنها دولة يريد الكل زوالها وإعادة بنائها على أسس أخرى مغايرة ومعادية للشكل القديم والقائم حاليا دون أن يأخذ ذلك طابعا عقلانيا ولا سلسا ولا توافقيا.

الإطار السياسي العام -حيث تنتج المواقف-   يدار بالطريق الخطأ، والعمل الحكومي لا يُسيًر أيا من التحديات، بل يقع على مسافة بعيدة من كسب الرهانات، وكأننا لا نشبع من الظروف السيئة التي نسبح فيها لنزيدها تعقيدا. إنه شعب يدير ظهره للاستقرار على نحو كارثي. ويشكل النظام الحالي إحدى تلك التجليات، وقد يكون تتويجا لها بسبب إجراءات التهييج التي تكتنف الوضع والتحضيرات لما بعد المأمورة الثانية. إنه -بحق-  يعرف علاقات توتر واسعة مع معارضيه، ويعرف إخفاقات في مجال بناء المؤسسات والعدالة الاجتماعية، بل وتكلل هامته الأزمات.

إن عملية زواله - بعد انتهاء مأموريته-  ضرورية كممر عبور إجباري نحو الاستقرار، ويجب التحضير لها في ضوء تطلعنا التاريخي للنفاذ إلى التناوب، أو بما يحقق فرصا حقيقية للمصالحة الوطنية ولصيانة الدستور:  تلك الوثيقة التي نلوكها كل يوم. إنه بلد يغرق بتجاهل الأطراف لأوضاعه وسوء تقدير العواقب. إن المعضلة تكمن في أن زوال هذا النظام لا يضمن نتائج أحسن إلا من خلال تغيير الظروف السياسية للبلد عبر قنوات ديمقراطية وظيفية، الأمر المعاق أصلا ببناء الثقة ووضع قواعد شفافة. إن النظام يسيطر على كل قواعد المسار، وعلى كل المستويات، ولا يقبل بشريك يملك أكثر من هز رأسه باستمرار مثل الساعة المعلقة في المسجد، عالقة من أعلى وغير مثبتة في الأسفل، وهو ما يضعنا أمام مشكل إضافي آخر.

الطبقة السياسية  في الطرف المقابل والنظام كلاهما لا يستوعب معضلات الوضع الحالي بكل تشابكه، ولذلك يظهرون وكأنهم غير حازمين وغير جديين في صناعة الحلول، أو على الأقل في خلق خيارات في الاتجاه الصحيح: النظام يلف مسعاه الغموض، لأجل ذلك يثير الكثير من الدعاية التي تتضمن معلومات غير موثوقة تعجز عن مهمة التغطية على عدم صدق النوايا، ويجند لذلك وزراء مطرقين باستمرار كما يظهرون في اجتماعهم الأسبوعي، ضمن حكومة" تكنوقراطية" تبدو إلى حد الساعة  عاجزة عن مواءمة عملها مع أوجاع وهموم المواطن اليومية، ويزخر حديثها بالمغالطات، ولا تمد الرئيس بالإرشاد الضروري لمثل هذه اللحظة الحاسمة، بل تحابيه إذ يجوب أعضاؤها المدن لا يحملون الجواب على تساؤلات المواطنين المرتبطة بأحوالهم المعيشية والصحية مثل سعر الكهرباء الباهظ الذي يصدر للخارج ويقطع عن المواطنين بصفة منتظمة، أو ضعف خارطة توفير المياه، أو انتشار الأوبئة، ويعوزهم فصل الخطاب في ما هم مقدمون على تفسيره بشأن الحوار، ليس كل ما ينقصهم الخبرة السياسية بل والإطلاع على نوايا النظام الحقيقية المختزلة في عدة أشخاص أغلبهم من العسكر.

والمنتدى يلوذ بالهرطقة والمماحكة السياسية ويسعى لوضع العربة قبل الحصان، وموريتانيا تغلي من الداخل وتنتظر القشة التي لا يعرف أحد متى ومن أين ستسقط. إننا أوفياء لشيء وحيد فقط ولم يفدنا أي شيء، ألا وهو اجتراح الزعامات، دون أي التزام  بالمعايير المتعارف عليها من الاقتدار  أبدا، فلا يمنع ذلك الصفوف الأمامية في المجتمع من أن تتضاءل لتتوج الواحد قائدا ملهما وزعيما مخَـلْصا، لا يفري أحد فريه، وفي كل مرة نعود أدراجنا ونعيد الكرة لتأتي بـ"حمارالسَيكْ" لنواجه وَيْلاتنا التي ولدنا بها، ونحن وراء تلك الشخصيات الواحد تلو الآخر كأنه صنوه وتقع رجله على رجله في استمرار بديع للفشل.

وفيما نحن في قمة الاحتفاء بهم، يقتفي أثرنا المرض، الجهل، الفقر، البطالة، الوسخ و"الوذح" وانعدام الصرف الصحي والأمان الشخصي... وأكثر من ذلك دابة خطر التفكك التي ترعبنا منذ أكثر من ستين سنة، وليس هناك احتمال للتخلي عن هذه العادة السيئة في المنظور القريب. إن مشكلتنا الحقيقية مع الصدفة التي ظلت مسئولة عن خلق رؤسائنا وقادتنا السياسيين... أيوجد ما يمكن أن نصف به هذه الوضعية إلا كونها لوثة من سوء الطالع!!.

لا يوجد ما هو أسوأ من أن يتنافس الناس حول الحضيض. ولهذا اعتزل أغلب الصديقين من علمائنا وعقلائنا وشرفائنا ومثقفينا هذه المنافسة. إنها متاهة حقيقية تلك التي يعيش فيها شعبنا. نحن ولدنا من أجل خوض تجربة فاشلة في مفهوم الدولة الوطنية، لذلك لم نعش أي تنشئة تأسيسية، ولا نملك حلما كبيرا ملهما بالبطولات، ولا توجد لدينا محافل للمراجعات ولا المحاكمات الفكرية التي يرافع فيها المثقفون والأدباء والمفكرون ويتم عبرها تصحيح المسارات والوقوف في وجه الاتجاهات الرامية إلى التمايز. وحينما نبحث عن التمييز نغض الطرف عن "فوضى التعبير" التي لا تخضع لأي شروط مهنية أو أخلاقية أو عقلانية أو قانونية أو معرفية حتى.  كم هو عاثر حظ هذا الشعب الذي يفتقر لعقل يجنبه المتاهات!!. نحن لم نستفد من درس 2008 حينما رحلنا عن بكرة أبينا إلى دولة مجاورة لنحل مشكلتنا، واليوم نؤكد للعالم مجددا أننا لم نشب عن الطوق حتى أمام وضعية أقل حدة من حيث المشروعية، وأن مرجعياتنا الدينية والفكرية والقانونية  لا تحمل حلا لمعضلاتنا رغم تشبثنا الصوفي بها وكأنها وضعت للتباهي.

كل الوساطات باءت بالفشل لأنها لا تعبر عن رأي دفين عند بعض الأطراف، أو -بمعنى أدق- لا تجعل من أولوياتها تلبية الطموح الشخصي للبعض، وكل طرف يريد حمل خصمه على توقيع وثيقة إذعان. وهكذا ظل الرئيس مسعود، الذي يحظى بتزكية الأطراف، مثل حكم المباراة يغدو جيئة وذهابا بينهم، وفي كل يوم يواجه نوعا من التعاطي والردود والمواقف مغايرا تماما لما كان بالأمس. وكأن فشلها مفروغ منه. لقد أمسى مساره بين نارين كلتيــْـهما حارقة، حتى غدا مربَـكا ومحبطا، فأي نوازع تلك التي تتقاسم هذه الأطراف!!. لقد تم القضاء على مظاهر الجدية في حقيقة الأمر، لأن بنية الخطاب المتعلقة بالحوار وكافة مخرجاته ومقترحاته ومبادراته استـُـهلكت، لهذا صارت كل تلك الأدوات صدئة للاستخدام مرة ثانية لنفس الغرض. النظام اليوم -واختراعا لبديل عن المعارضة- يتوجه إلى الجهة الغلط، كمن يضع مضمدات على المكان السليم من الجسم، فالشعب ليس طرفا في الأزمة السياسية.

الأزمة أطرافها أحزاب سياسية والنظام، وأي جهد أحادي لتجاوزها سيبوء بالفشل، لا محيص. الأنظمة العتيدة  التي تهاوت في البلدان العربية كانت أقوى من نظامنا، وقد سقطت بتصميم  5% من سكان  عواصمها حرًكتها المعارضات. ولم تحمي حسني مبارك من السقوط 83% من الشعب المصري التي صوتت له في الانتخابات ولا 19 مليون التي لم تثـر عليه  في القاهرة،  وهو الآن وراء القضبان ويتطلع المصريون لرؤيته كما لو أنهم ينظرون إلى تحفة أو أمر غريب عنهم في متحف أو في حديقة حيوانات!. وزين العابدين "اهـْرَبْ" مع فوزٍ في الانتخابات بنسبة 98%.

نظامنا يزدري تلك الدروس ويلملم  بأيدٍ مخفية أحزابا ومنظمات صغيرة لا تملأ في الحقيقة المقعد الكبير الشاغر الذي ظل من نصيب أحزاب لها تاريخها وتضحياتها ورمزيتها  النضالية وشعبيتها. إنه بلد يغرق: يجب تكرارها مرات.....

كل الأيدي ممدودة للحوار، وكل المحصلات التحليلية تجزم بفرادة الحوار في حل أزمتنا،وكل التصريحات تشيد بأهمية الحوار، ومع ذلك لا نتحاور..  فأين تقع المشكلة؟.. النظام- من أجل تجاوز الكل- يدعو دعوة جـَفَلى إلى الحوار، كمن  يهرب إلى الأمام ويُسعًـر الأبواق التي تصدح دون الالتزام بحقائق المرحلة ولا بالمصلحة العليا للبلد ليشرح للشعب تفوقه على المعارضة في حب الوطن والاستعداد للحوار،  مع ذلك لا يعرج على الأسباب التي صار بها الحوار مهما وملحا لهذا الحد، ولا لماذا يصبح التشبث به دعاية رائدة  لديه ولها ثمنها، بل و يعرض صفحا عن كل ذلك، لأنه يريد الخير للمعارضة فقط،  وكرما منه. إنه لا يعترف بالأزمة في كنهها، ووزراءه الذين يحملون توصياته إلى الشعب يستمرون  في التناقض أمام الملأ وبشكل موثق للمستقبل، يتواطئون في مغالطة كبيرة هدفها تجاوز المعارضة والتحضير لاستمرار نفس النظام في الحكم بعدما باءت كل جهوده مع المعارضة بالفشل  ـ  كما يتم الترويج لذلك باستمرار ـ  ليدخل البلد في نفق آخر مثل 2008.

إنه تفكير متمحض عن المصلحة الضيقة التي تراعي الرغبات الشخصية التي تغلبها مجموعة تحيط بالرئيس منها أطر صعدوا ضمن حربنا التي لا تتوقف مع الصدفة، وليس الاضطلاع بالمسؤوليات. إن النظام، وهو يعيد بلده لنفس المأزق، يتمادى في ظلم المعارضة، فهو يمنعها كل الفرص لإعادة الثقة به ويحاسبها حسابا عسيرا وكأنها تملك تسيير البلد. المعارضة  ـ وهذا ضمن تكتيكها ـ  ترفع سقف المطالب للحصول على مؤشرات إيجابية عن الجدية عند النظام لكي تؤسس عليها ثقة جديدة به بعدما انعدمت ثقتها به على طول المسار الذي شملهم. النظام ينسى أنه ظل صاحب المبادرة في تسيير الأحداث وجر الناس إلى الوضعيات المربكة باستمرار.

إن العمل الذي يتعين  عليه القيام به ليس إلا التضحية لإنقاذ نفسه وإنقاذ البلد، خاصة التضحية بالأطر "ذوي الأرجل السوداء" الذين يدفعون لتجاوز الأطراف المهيمنة على الساحة السياسية والرأي العام في البلد ويقدمون رأيا انتهازيا لا يخدم أيا من الرهانات، فهو يعرف حجم الإختلالات التي أحدثها تسيره بالبلد. لقد ظل يعول كثيرا على  استراتيجية من شقين: سياسة الأمر الواقع، والدعاية التي تحشد لها وسائل وآليات الدولة. وقد نجح في ذلك إلى حد اليوم، ويعد ذلك مرد اعتزازه بنفسه، وسبب تجاهله لرأي معارضيه. ويبقى ذلك خطأه  الفادح الذي سيلاحقه. الدعاية والحقائق على الأرض شيئان مختلفان تماما. وعليه فيتوجب تذكر ذلك باستمرار لكي لا تتحول الدعاية إلى واقع في أذهاننا. نحن في حقيقة الأمر نعيش خراب تجربتنا الديمقراطية. إن النظام يريد منا الانسجام في الدعاية حوله بأن ممارسته للسلطة كانت مفيدة للبلد كشرط لتصديق نوايانا، وذلك شرط تعجيزي هو الآخر. دعونا لا نمانع من أجل تجاوز تلك العقبة، لكن ودون أي نكاف،  لابد أن تكون لهذه التجربة  حدود: كيف ومتى وأين تنتهي هذه الحدود؟..

إن مدى تأثير ذلك على الوضع العام هو المشكل المطروح لنا  وهو مجال مشاركتنا الإجبارية  في هذا الوضع الذي يريد لنا النظام أن لا نكون أحرارا فيه  (

 

محمد محمود ولد بكار

اقرأ أيضا