هل تأملت ـ عزيزي القارئ ـ بما فيه الكفاية بزوغ الفجر بعد ليل طويل وظلام دامس، يغطي الأفق ويطبق على النفس ؟
وهل سجلت ذاك التحول التدريجي والمبهر في الرؤية والمشاعر، عندما يبزغ الفجر وتبدأ المشاهد في التشكل، التدريجي حتى تأخذ شكلها النهائي وكأنه لا وجود للظلام أصلا ؟.
إن هذا الأثر تماما هو ما خلفته في نفسي قراءتي ليوميات اغوانتانامو لمحمدو ولد صلاحي، وأجزم أنها تركت أثرا أكبر وأعمق في نفوس الملايين، وخصوصا ممن يملكون مقدرة أكبر على التعبير، ونقل المشاعر من حيز الإحساس الفردي إلى فضاء لا نهائي يؤدي إلى مشاركة عشرات الملايين في نفس المشاعر والأحاسيس والرؤى، والتي بدأت "فردية" في وعي وفكر ولد صلاحي ومن ثم صاغها بكل ذكاء موضوعي لتؤدي "اليوميات" دورها المطلوب وأثرها الفعال .
وهذا الأثر يشمل أوجها عدة ربما يكون من أبرزها كشف العوالم الخفية والمشاعر العصية على التعبير والفهم والتي تمثل التحول المرعب في السلوك وطرق التفكير والإحساس بالمحيط عندما يبتلع المجهول شخصا ما بجسمه وروحه، ويدرك في لحظات قليلة أنه لم يعد ذلك الشخص الذي كان قبل لحظات، وهي تجربة يمكن مقارنتها بالموت باعتباره مغادرة الحياة بكل ما تشكله تفاصيلها اليومية البسيطة وحتى التافهة، مع فارق جوهري وهو أنه ـ أي الشخص الذي ابتلعه المجهول ـ في كامل وعيه وإحساسه إلا أن هناك قوة قاهرة وظالمة وطاغية تتحكم بمصيره، وتحوله من إنسان عادي له مشاعره وطموحاته، وعلاقاته الإنسانية المختلفة، ويتمتع بحريته الكاملة تحوله إلى "شيء" ربما يكون وسيلة لفهم حدث أو أحداث لو عش ألف سنة وقطع إربا إربا ما كان له أن يساهم ولو بجزء يسير في كشف ما هيتها، لأنها وبكل بساطة لا تعنيه، وليست له بها أية صلة، لكن من يحتجزه ويتحكم به، يود أن يكون وسيلة لفهم أمر في غاية التعقيد والغموض، من قبيل أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 والتي تمثل ـ بكل موضوعية ـ صفعة مؤلمة تلقاها المارد الأمريكي ليتحول بعدها إلى وحش كاسر تعرض لطعنة في غاية الألم جعلته يحطم كلما يعترض طريقه، دون أن يكون لديه وقت للتفكير فيمن يوجه إليه غضبه.
وقد وفق ولد صلاحي ـ خلال كتابته لـ"يوميات غونتانامو" ـ أن يصور تجربته القاسية والمرة مع الاعتقال والتعذيب في كل مراحلها وبكل شخوصها، وأماكنها، بطريقة تفوق لوصف، ويكفي أن نقرأ عن ما كتبه عن ماهية كتابه فقد كتب "لقد كتبت فقط تجربتي، ما شاهدته وما عرفته، حاولت أن لا أبالغ في نقل الأشياء أو أبخسها حقها، حاولت أن أكون منصفا قدر ما استطعت لحكومة الولايات المتحدة، وإخوتي ونفسي.....".
إنها قمة الموضوعية والصدق عندما يصف عمله النادر بقوله "حاولت أن لا أبالغ" بدل من كلمة "لم أبالغ" و "حاولت أن أكون منصفا" بدل أن يقول "كنت منصفا". كل هذا مع الترتيب الموضوعي غاية الموضوعية، عندما ذكر من شملته محاولاته في أن يكون منصفا "الولايات المتحدة ـ إخوته ـ نفسه".
وتتجلى الموضوعية والصدق في ما كتبه ولد صلاحي ويمكن أن نلاحظ في أكثر من موضع في "يوميات غونتانامو" عن مخاوفه الشخصية وتصويره لدرجة الرعب الذي كان يعيشه، ويمكن أن نلاحظ أن هذه المخاوف والرعب الذي عاشهما كانا في مرحلة ماضية قبل كتابة اليوميات، فلو لم يجد متسعا من الوقت ـ حسب الظرف ـ ما استطاع كتابة يومياته.
وهناك سلوك بشري طبيعي أن الشخص لا ينقل للآخرين من مشاعره وأفكاره إلا ما يكون قد مر على رقابته الذاتية، والتي في النهاية تصوره على درجة ما من المثالية، بينما ولد صلاحي كتب بكل عفوية وصدق عن مشاعره وهذا سر من أسرار تميز هذا الكتاب وتأثيره.
فعند قراءة فصوله المختلفة يحيل القارئ إلى فهم عوالم لم تكن متصورة لديه بما فيها نمط تفكير الآخرين وأساليبهم في التواصل وفي التعبير عن ذواتهم، وفي تسويق ما لديهم للآخرين، فمثلا يأخذك الكتاب في أكثر من موضع إلى أن تفهم وتتصور نوعية الأشخاص الذين يمارسون الأذى للآخرين، وحتى يتلذذون بإهانة الآخرين، ولا يحقق واحد ذاته إلا على أشلاء نفس بشرية، ففي الحياة العادية نرى أشخاصا متميزين في فرع من فروع العلوم الإنسانية أو العلمية، وحتى في التجارة، هؤلاء الأشخاص في النهاية حققوا ذواتهم من خلال خدمة جليلة للإنسانية، ويمكن بكل وضوح أن نأخذ فكرة عن طرق تفكيرهم وحتى مشاعرهم الشخصية، وهي أشياء محصلتها الإعجاب اللامتناهي بالشخص، أما الذين حققوا ذواتهم في الكهوف وفي الأقبية وبعيدا عن الأضواء حققوها بتعذيب شخص أعزل لا يملك حولا ولا قوة، وأن يذيقوه ما لا يخطر على البال من تعذيب وإهانة يحيلنا إلى متاهة أخرى في النفس البشرية تجعلنا نقف عاجزين عن فهم ماهية هذا النوع من البشر دون أن نجرمه ودون أن نحكم عليه، لكنه يشكل لغزا "ما هي المراحل التي قطعها حتى وصل إلى ما وصل إليه" هل التربية أم الثقافة أم التكوين المهني أم الحاجة المادية؟ لا أدري..
لكن محمدو ولد صلاحي من خلال كتابته ل"يوميات غونتانامو" جعلنا ندرك أن هناك أشخاصا على هذا الكوكب يمارسون هذه الفظاعة ثم يعودون إلى بيوتهم ويستقبلون أطفالهم بكل حب وحنان، وكأنهم يمارسون عملا عاديا أو حتى نبيلا، وهذه الإشكالية حاول الكاتب أن يجيب عنها في أكثر من موضع كذلك عندما يصرح أو يلمح إلى أن الذين يمارسونالتعذيب هم في النهاية بشر، وربما يتطلب تفسير هذا اللغز كتبا أخرى من قبيل " يوميات غوانتانامو" والتي تشكل توثيقا واختراقا للمجهول.
ومما أثر في كثيرا خلال قراءاتي المتعددة للكتاب تفاهة المكانة التي يحتلها المواطن في الدول العربية والإسلامية لدى أصحاب السلطة، فمثلا سلم ولد صلاحي إلى الولايات المتحدة مرورا بالأردن، وأوهم أنه سيعود إلى وطنه خلال أيام، فهو بالنسبة لمن سلموه عبارة عن "طرد" وصله أمر من جهة عليا بإرساله إلى المكان كذا، وأنا على يقين من أنهم لحظة إرسال هذا الطرد لم يفكروا لحظة واحدة في ماهية المشاعر التي ستعتمر في نفس والدة محمدو ولد صلاحي مريم بنت الوديعة تغمدها الله برحمته، تلك المشاعر التي صاحبتها خلال سنوات حتى انتقلت إلى جوار ربها دون أن تنظر ولو لحظة واحدة إلى فلذة كبدها، الذي هو بكل بساطة محمدو ولد صلاحي.
ولو شطح بنا الخيال بعيدا وتصورنا أن الذين سلموا ولد صلاحي إلى مصيره رفضوا تسليمه بحجة أنه مواطن تجب محاكمته على أرضه، وأن يتلقى العقوبة التي يستحق على أرضه، لو وقع هذا لكنا شاهدنا ذي قار جديدة على شواطئ المحيط الأطلسي في مطلع القرن الواحد والعشرين، لكن العكس هو الصحيح فقد سلم تحت جنح الظلام ليعيش الواقع الذي جعله يكتب "يوميات غوانتانامو" والتي جعلتنا قراءته نفهم أشياء كثيرة، من ضمنها العلاقة بين السلوك والمبدأ الذي يعتنقه الشخص، فمثلا الضابط البحري الأمريكي ستويرات كودش ينسحب من قضية محمدو ولد صلاحي لكونها تخالف المبدأ الذي يشكل احترامه للإنسان حسب معتقده رغم انحرافه، بينما يعذب ولد صلاحي من قبل مسلمين دون أن يتخلى منهم أي أحد عن تعذيبه في لحظة من اللحظات (الأردن مثلا).
كما أن مجمل اليوميات ينبض بمشاعر إنسانية غاية في الروعة عندما يذكر محمدو سماعه للمؤذن وقت السحر عندما كان معتقلا في الأردن، ويصف الأذان بالصوت السماوي، ولا يخفى أن نبرة الأذان لدى المشارقة، نبرة في غاية التأثير، ومحمدو كان يسمع نفس الأذان قبل أيام في نواكشوط وبين افراد أسرته، ولنا أن نفهم ماهية مشاعره والفرق بين المكانين وطبعا بين مشاعره في الأردن معتقلا ومشاعره بين أفراد عائلته يعيش كامل حريته، وينعم بالأمن والسكينة بين ذويه.
يسخر الكتاب في كل فصوله بهذا النوع من التصوير لماهية المشاعر وخصوصا عندما يكون الذي كتبها هو نفس الشخص الذي عاشها وليست وحي خيال كتبه أديب لا يعاني أية مشكلة، وإنما يحاول بخياله أن يتصور الأشياء والمواقف والمشاعر ثم ينقلها بعد ذلك إلى القارئ، بينما ولد صلاحي نقلها "طازجة" ليتلقاها القارئ وليحكم عليها كل حسب فهمه.