لم تجد المعارضة الموريتانية – على الأقل في تاريخها الحديث – أخطر على المعارضة من تصرفات المعارضة. أعيدوا قراءة تاريخها الحديث، وستكون أمامكم نفس النتيجة، لقد قيض الله لأنظمة موريتانيا – العسكرية – معارضة تخدمها أكثر مما تصور، وتقدم لها – بالمجان – ما لم تكن تحلم به.
نحن الآن أمام فرصة - من الفرص الكثيرة – التي تقدمها هذه المعارضة للأنظمة على شكل هدايا دورية، تتزامن في الغالب مع اللحظات الأكثر حرجا بالنسبة لهذه الأنظمة، وقد تصل درجة حبل الإنقاذ من الهاوية التي كان على شفاها أو بدأت الانحدار فيها فعليا.
ميزة أخرى من ميزات المعارضة تستحق التوقف، هي أن سير خطها يترابط بشكل غريب – بل غريب جدا -، مع خط الأنظمة العسكرية الموازية لها، فهي تبدأ قوية مع بداية النظام الجديد، متماسكة، منسجمة في أهدافها، قادرة على جر النظام لتقديم تنازلات في حال حاورته، وعلى تعريته في حال واجهته، ثم لا تلبث أن تضعف مع ضعفه، ثم تدخل في مساومات – لاحظوا جيدا لم أقل صفقات – تنتهي بنهايته. وقع هذا مع ولد الطايع، وشيئا ما ولد محمد فال (ربما، الاستثناء في هذه الفترة الانتقالية أنها لم تقو أصلا حتى تضعف)، ثم مع ولد الشيخ عبد الله. إنها مدمنة على التحالف مع الأنظمة التي تلفظ أنفاسها واقعيا أو دستوريا – لا فرق -.
تنتهز معارضات العالم لحظات ضعف النظام – بما فيها الضعف الدستوري، ومنه اقتراب نهاية المأمورية – للالتحام أكثر، والتوافق أكثر، والتقدم خطوة نحو التخطيط لما بعده، سواء بالحصول على توافق حوله، أو بوضع قواعد تضبط علاقات المعارضة مع بعد تحقق هدفها في إنهاء النظام، وقد كادت المعارضة الموريتانية تقيم تجربة لها في هذا المجال إبان "ائتلاف قوى التغيير 2005 – 2007"، لولا الكدمات التي تعرضت لها في الانتخابات البلدية، والتشريعية، قبل أن تنتهي بالضربة القاضية في الشوط الثاني من الانتخابات الرئاسية آنذاك.
ولكي لا نغرق كثيرا في تاريخ – غير شيق بالمرة – دعونا نقف الآن مع المعارضة في محنتها الحالية، وهي على أبواب التمزق والانقسام للمرة الألف خلال السنوات القليلة الماضية. إنها تثبت في كل مرة – بإرادتها أو دونها – أن النظام هو من يحدد بوصلتها، - وحدة أو انقساما -، ومستوى فعلها النضالي، حدة أو هدوءا. أكاد أقول إنه يملك "خاتما" سحريا لإدارتها وفق ما يهواه.
تجمع المعارضة اليوم – بمنتداها ومعاهدتها – ولها من التاريخ القريب شاهد، أن الحوارات الجزئية لن تحل الأزمة التي تعيشها موريتانيا، ويصر رئيس حزب التحالف الشعبي التقدمي على تكرار هذه الخلاصة في كل لقاءاته.
كما أجمعت أحزاب المنتدى ونقاباته وشخصياته – وما أقل إجماعاته – أنه لا حوار قبل العودة لما وصفه لمسار إبريل بين الطرفين، وحاول النظام تجاوز هذا المسار والقفز، فنظم اللقاء التشاوري الموسع، قبل أن تدرك الحكومة – قبل غيرها – أنه ليس سوى نشاط موسمي لحزب الاتحاد من أجل الجمهورية. لم تكن مشاكل موريتانيا على جدول أعماله، كان هزليا من جدول أعماله، إلى توصياته التي وجدت طريقها سريعا إلى سلة المهملات، وربما قبل أن ينفض جمعهم من قصر المؤتمرات.
اعتبرت قيادة المنتدى – السابقة واللاحقة – أن أعمال هذا اللقاء لا تعنيها، وأعادت التذكير، بضرورة العودة إلى المسار السابق، بل وطالبت السلطة صراحة بذلك، وكانت تلقي جواب مكتوب من الوزير الأول أو من الأمين العام للرئاسة إكسير تلك العودة، وانطلاقة من النقط التي توقف عندها.
إلى هنا تبدو الأمور طبيعية. وما ليس بطبيعي، هو أن مكالمة من ولد محمد الأغظف، كانت كافية لتجاوز بعض أحزاب المنتدى لهذا الشرط الذي كان يوما إجماعيا، بل وتحويلها ضغطها من الحكومة إلى الأحزاب السياسية المطالبة بالمحافظة على القرار الإجماعي للمنتدى.
لن أتجاوز مكالمة ولد محمد الأغظف إلى الحديث – المؤكد – عن لقاءات هناك أو هناك، مع مستشارين في الرئاسة، وأعضاء نافذين في مجلس الشيوخ، فالأرجح أن الباقي من المعارضة أخذ حصانة من الضغوط، ومناعة من الصفقات تحت الطاولة.
يبدو لافتا كذلك "حشر بعض أحزاب المنتدى" لنفسها تحت سقف زمني غير مفهوم، فما الذي يضغط عليها للرد على مكالمة ولد محمد الأغظف في ظرف أسابيع، وهو – والطرف الذي يمثل – يرفض الرد على رسالتها منذ أشهر، وكانت مكالمته – ردا لفظيا – جاء متأخرا هو الآخر لعدة أشهر، وبعد محاولة فاشلة لتجاوزها، ورهان خاسر على انقسامها خلال شهر سبتمبر الماضي.
تتجاهل أحزاب المعارضة تفصيلا يقول إن لب أزمتها مع النظام ليست أزمة تفاصيل سياسية، أو تحسينات ديمقراطية، وإنما هي في الأساس أزمة ثقة، بدأت في دكار، وتعززت في 2011، والراجح أنها لن تنتهي قبل 2019.
خلال السنوات الماضية، تبادلت أحزاب المعارضة على مقعد ارتكاب الأخطاء في حق موريتانيا أولا، وفي حق هذا الشعب الحالم بوطن مستقر، آمن، ديمقراطي، وفي حق المعارضة ثالثا، وتفاوت أحزابها في امتلاك شجاعة الاعتراف بالخطأ، بين المعترف بشكل صريح، والمخرج لاعتذاره في ثوب حكم على خطأ تحليله للمرحلة، أو خطل تعاطيه معها.
يبدو بكل أسف أن العديد من أحزاب المعارضة غير قادر على النظر إلى الخلف ليستفيد من ماضيه القريب قبل البعيد، وليتعظ بتجربة الأمس القريب، ولا هو قادر على رفع بصره ليرى أبعد من وقع قدمه.
مشكلة المعارضة – بل مشكلة السياسة في موريتانيا – أنها بنيت تحت ظل أنظمة عسكرية، أو حركات سياسية، وهو ما أوجد سياسيين يتعاطون السياسية بأدوات غير سياسية، ويفسرون الأحداث السياسية بوسائل خارج العلوم السياسية. إن كل جهد أحزاب المعارضة هو معرفة ماذا يريده ولد عبد العزيز من الإصرار على الحوار، وتجاوز السؤال الأهم – بالنسبة لها ولجمهورها – وهو ماذا تريد أحزاب المعارضة من الحوار؟ وما هي شروطه؟ وكيف نضمن أن يجد طريقا مختلفا عن طريق اتفاق داكار وحوار 2011؟
إنها الأسئلة التي لا تريد الأحزاب "المهرولة" نقاشها أحرى تقديم إجابة عليها؟
أحمد محمد المصطفى