رجال عرفتهم .. الخليل الشيخ محمدو النحوي

أحد, 2015-11-22 16:52

بسم الله الرحمن الرحيم 

لَيْسَ عَلَى اللهِ بِمُسْتَبْعَدٍ   أنْ يَجْمَعَ الْفَضْلَ فِي الْوَاحِدِ! 
  
تحت هذا الركن الذي استحدثته منذ سنوات بعنوان  "رجال عرفتهم" كتبت عن بعض الشخصيات الوطنية ذات الصيت الواسع، بعد أن جمعت لنفسها رصيدا لا يجادل أحد فيه، علما وكرما وفضلا وأريحية وشجاعة، وخدمة للحضارة العربية الإسلامية وللإنسانية؛ وعلى الخصوص خدمة لموريتانيا، ولثقافتها. وكنت وما زلت أقول إنني لا أكتب إلا عن شخصية لن يسمع عنها شخص يملك حدا أدنى من الإدراك إلا وندَّت منه كلمة: "وَخْيَرْتْ". 
ولكي لا أتهم بالادعاء فإنني أذكِّر بمن كتبت عنهم في هذا الركن، وإن بعناوين مختلفة للأول والثاني، وتحت هذا العنوان للثالث. كتبت عن الشيخ إعلي الشيخ ولد أمم حين بهرني تواضعه، وإنفاقه الذي لاحد له، وكتبت عن الولي محمذن بن محمودن لما عرفت فيه من ذكاء نادر وتواضع وكرم وعلم، كما كتبت عن الأستاذ الدكتور محمد المختار ولد أباه لما قدمه لبلاده من خدمات مفصلية في تاريخها الثقافي والأدبي والتربوي، ولما أنفق من جهده ووقته في خدمة الحضارة العربية الإسلامية، والتعريف بالحضارة الموريتانية فقها ولغة ونحوا ورسما وضبطا وأصولا وحديثا. وتنتهي اللائحة لحد كتابة هذه السطور عند هذه الشخصيات الثلاث، رغم أني امتهنت الكتابة منذ أكثر من عقدين. 
اليوم سأقتبس من شاعر وفيلسوف عباسي معروف هذا البيت الذي تصدر الموضوع  ببعض التصرف، وأصله {ليس على الله بمستبعد  أن  يجمع العالم في الواحد}.. فأبدلت "العالم" بالفضل ليكون مدخلا لهذه الخواطر التي كنت أطمح لكتابتها منذ وقت فشغلتني شواغل الحياة والغوص في تفاصيلها الموجعة أحيانا، والمستبشرة أحيانا أخرى، لكن وجودي بالرباط العاصمة المغربية، وأنا في مرحلة نقاهة بعد أن شفاني الله من سقم ألم بي، أتاح لي الفرصة لأنثر هذه الخواطر، وأنشر عَرْفَهَا النابع ممن كُتبت عنه؛ وهو الشيخ والأستاذ والأديب والباحث الخليل النحوي، لعل القارئ سيقول إن الاختيار ليس نابعا من فراغ، لأنني لم أشأ قط أن أختار موضوع من أكتب عنه، وإنما الموضوع هو من يختارني لأكتب. 
نشأ الشيخ الخليل في منطقة اترارزه، وفي قلب هذه الولاية، منطقة " رقاب العقل" التي يصفها أحد شعراء المنطقة بقوله: 
رِقَابَ الْعُقْلِ إنَّ لَنَا وُلُوعَا  بِجيرَتِكُنَّ قَدْ سَكَنَ الضُّلُوعَا. 
ويتمثل لسان الحال فيها قول الشاعر العربي القديم: 
بِنَفْسِيَ تِلْكَ الأرْضَ مَا أطْيَبَ الرُّبَا   وَمَا أحْسَنَ الْمُصْطَافَ وَالْمُتَرَبَّعَا 
تربى في حضن والده الشيخ محمدو النحوي، الذي اشتهر بالأخلاق الفاضلة والعلم والورع والكرم وبالعرفان. فتعلم وترعرع في هذه البيئة الباذخة فضلا ومروءة وكرما وعلما وتصوفا. وهنا سأروي بعض الخواطر ليفهم القارئ سياق الموضوع: 

 الخاطرة الأولى: 
 سمعت عن الخليل النحوي عند ما قدمت إلى نواكشوط في نهاية السبعينات، حينها كان أول رئيس لتحريرصحيفة الشعب عندما صارت يومية، ولم ألتقه في هذه الفترة إلا مرتين إحداهما حين زار الشاعر الكبير أحمدو بن عبد القادر في منزله، وكنت أسكن معه وأنا  حينها طالب بمدرسة تكوين المعلمين، فلفت انتباهي في هذا الشاب وأنا أعرف مكانته الاجتماعية المميزة هذا التواضع العجيب، وهذه الأخلاق الرفيعة، التي تحس أنها تنساب إليك بترو، وتسكنك دون استئذان. 
أما المرة الثانية فقد كان علي ان أسافر إلى مدينة روصو وأظن ذلك في نفس السنة (1977م)، وأنا حينها طالب، وكان لدى صحيفة  الشعب سيارة من نوع {دي _ شيفو) تنقل الصحيفة كل صباح إلى هذه المدينة النهرية الحدودية، وكانت حينها الصحيفة الوحيدة التي تصدر بالبلد، وقد أرسلني أحدهم بتوصية للخليل بنقلي  إلى تلك المدينة  فجئته في قاعة للتحرير فنقلت إليه التوصية، فاستقبلني بترحاب جم، وبحث هو شخصيا عن سائق السيارة وأعطاه أمرا بنقلي إلى وجهتي، ثم حاول أن يدفع بمبلغ في جيبي، لكنني رفضت بإصرار؛ فالزمن حينها لم يكن زمن العولمة والبزنس. 
لقد أغراني الرجل حين تعرفت إليه عن بعد أن أتابع أخباره وهذا ما تحقق لي. لقد تابعته وهو موظف في موريتانيا، وكنت أسمع دوما بعبارات الثناء تحاصر من يصادف الحديث عنه، سواء من طرف الموظفين العاملين معه، أومن طرف من يرأسهم، أو من طرف الفراشين والعمال البسطاء.  
لقد كان الخليل النحوي على دماثة أخلاقه وتواضعه ولطفه؛ رجلا شجاعا قويا لا تلين له قناة أمام أي ضغوط مهما كانت، وهنا سأروي لقارئ هذه السطور حكاية سمعت بعضها منه شخصيا، وبعضها الآخر كنت على علم به وهي.. 

 الخاطرة الثانية: 
في بداية الثمانينات من القرن الماضي شهدت موريتانيا موجة من الانقلابات العسكرية، وكانت الحركات اليسارية والقومية تسيطر على الشارع الطلابي والعمالي والنقابي، لذلك اضطر الحكام الجدد الذين قذفت بهم فوهات مدافعهم لهرم السلطة إلى التعامل مع هذه الحركات، وشهدت بداية الثمانينات صراعا مريرا بين تلك الحركات على قيادة حركة التطوع التي أنشأها العسكريون ليشغلوا بها هؤلاء المتحمسين للصراع، والمتحفزين للعراك، وكان صاحبنا ضمن  هذا الخضم المائج لكنه كان حينها مشغولا بمحاولة تقريب وجهات النظر بين التيار القومي والإسلامي، مما أغاظ السلطة التي كانت تفتقر لأبسط أنواع الشرعية، وتخاف أشد الخوف أي تقارب بين التيارات السياسية في البلد، بل إنها أشعلت الخلافات بين كافة مكونات المجتمع لينشغل الناس بأنفسهم عنها، تم ذلك في بداية الثمانينات، التي عرفت أشرس وأعتي موجة قمع عرفتها البلاد(1982-1984م)، كان الخليل النحوي صحبة بعض قيادات الحركة القومية ضمن الوجبة الأولى في الاعتقالات الشرسة، وقد خضع حينها لتحقيق أذيق فيه أنواع الإكراه المعنوي والجسدي ليعترف على زملائه، أو يعطي معلومات، فرفض بشموخ أن يعطي أكثر مما يريد قوله من معلومات عامة وسطحية، مما أغضب السلطة الحاكمة، وكانت نتائج هذا التحقيق الذي دام سبعة شهور، وتولته الشرطة، ثم الدرك حين لم تستطع الشرطة إلصاق التهمة  به، فلم يجد ذلك نفعا ؛ إذ ظل الرجل على موقفه، كان نتيجة ذلك أن ألصقت به "تهمة السعي إلى التقريب بين التيارين القومي والإسلامي"، لكن اللافت أن المحققين بهرتهم أخلاق الرجل حتى مع جلاديه، مما جعل البعض منهم يتحرج من التحقيق معه، ورغم أن المحققين كانوا مقنعين، فإن تحرج بعضهم من التحقيق لم يكن يخفى عليه، ربما لعلمهم أنه يعرفهم حتى وهم يخفون وجوههم وراء أقنعة ثخينة. 
حكمت محكمة عسكرية خاصة على الخليل النحوي حينها بعشر سنوات مع الأشغال الشاقة، لكن الله فرجها بانقلاب 1984م، فأفرغت السجون من مئات  المعتقلين وعاد المشردون والمحكومون غيابيا إلى بلدهم. 

  الخاطرة الثالثة: 
 تتعلق بالفترة التي كان الرجل يعمل بالمنظمة الإسلامية للتربية والثقافة والعلوم بتونس، وهي فترة امتدت لفترة تزيد على عشر سنوات، وهنا تمكن العودة إلى الطلاب والمرضى وأصحاب المهام الذين جاؤوا إلى تونس أو سكنوا بها في هذه الفترة، فقد كان الخليل النحوي يستقبل الطلاب والمرضى وينقلهم في سيارته إلى منزله، ويسعى في تسجيل الذين لم يسجلوا، ويحل مشاكل الذين يصادفهم، أو يأتونه بحثا عن حل لهذه المشاكل..ومن بين إنه يطبق المبدأ الذي عرفناه عند سلفنا الصالح وهو: 
" أن عبادة الرجال إنما تكون في منافع المسلمين". لن أطيل في هذا المضمار وإنما سأروي حكاية مختصرة سمعتها من الثقات أرويها لدلالتها البالغة على كرم محتد الرجل وأريحيته التي لا يحدها أفق-. 
في إحدى المرات نزل بعض الطلاب ضيوفا على الشيخ الخليل في منزله، وبعد فترة من الأكرام والخدمة تبين أنهم يريدون طريقة يصلون بها مدينة طرابلس العاصمة الليبية، فحملهم في سيارته وقادها بنفسه، وسهل لهم إجرءات الدخول ثم أوصلهم بعد أن أكرمهم طيلة هذه الرحلة الطويلة. وشبيهات هذه الحكاية كثيرة ومدهشة، 
في هذه الفترة نشر الشيخ الخليل كتابه الذائع الصيت، " بلاد شنقيط المنارة والرباط"، وهو الكتاب الذي سد فراغا هائلا في التعريف بالحضارة الشنقيطية بتنوعها المعرفي والثقافي والأدبي والعلمي، كما أن الكتاب أصبح اليوم المرجع الأساسي للباحثين والمهتمين بهذه الحضارة خاصة جامعاتها المتنقلة " المحاظر". 
نحن لم نتحدث بعد عن أدب الرجل وعن شاعريته الرائدة، فقد كان من رواد الشعر الحديث خاصة جيل السبعينات الذي كان أحد أبرز رواده، فديوانه الذي صدر من قبل بمبادرة من بعض الشباب، ثم صودر بمبادرة منه هو بسبب عدم تحري الشباب في تصحيحه وإدراجهم فيه قصيدة لشاعر آخر يحسبونها لصاحب الديوان... ديوانه ذلك يصدح بإبداع ورونق شعري أخاذ، إنه شعر مهموم بشؤون الوطن والأمة، وقضاياها، ملتزم بتفاصيل أوجاعها، معبر عن معاناتها، ناطق بآهاتها. يتغنى بها ويقدس لها، يرتبط بوشائج القربى بين مكوناتها. 
الخاطرة الرابعة والأخيرة 
تتعلق بفترة الرجل يخدم الثقافة العربية الإسلامية في إفريقيا. لقد كان الخليل النحوي منذ أكثر من عقد من الزمن يخدم بتواضع، ودون أي مباهاة الإسلام واللغة العربية في إفريقيا وذلك برعاية البنك الإسلامي، حيث أدار برنامجا لنشر التعليم العربي في المدارس الابتدائية والمعاهد والجامعات في مجموعة من الدول الإفريقية، منها النيجر- اتشاد- بوركينافاسو- غامبيا- مالي- السينغال- نيجيريا، وعمل على الإعداد لإطلاق برامج مماثلة في نحو عشر دول أخرى من منطقة إفريقيا جنوب الصحراء. 
هذا الجهد لم يصاحبه أي ضجيج إعلامي، ولم يسع هذا الشيخ العارف والأديب الرائد، والباحث المميز، إلى أن يعرف الناس شيئا عن جهوده. لأنه أراد لنفسه أن يخدم ثقافته ومجتمعه الكبير، وأن يتخذ لنفسه مكانة الجندي المجهول، ورعا وكرما، وخلقا رفيعا، وتواضعا، وحبا فيما عند الله، وزهدا فيما عند الناس. 
جزاه الله خيرا ، وأمد عمره وحفظه ورعاه. 
وهَلْ يُنبِتُ الْخَطِّيَّ إلاَّ وَشِيجُهُ   وَتُزْرَعُ إلاَّ فِي مَنَابِتِهَا النَّخْلُ 
الرباط-ـ المغرب. 
12/11/2015م 

اقرأ أيضا