إن الجو الفكري والاجتماعي الذي سرت فيه الدعوة إلى شن الحروب الصليبية ضد الأمة العربية والإسلامية كان يضطرم بالدعاية المسعورة حيث طفق النساك والمتنبئون من أمثال "بطرس الناسك"، يوغرون صدور الشعوب الأوروبية ويحثونهم على الانتقام ويزرعون في حناياهم الرغبة في قتل أولئك العرب المسلمين الذين شاعت عنهم القصص المرعبة التي اتهمتهم بقتل المسيحيين، وتعذيبهم واضطهاد الحجاج من النصارى وتدمير الكنائس والأديرة .
وقد عزف البابا أوربان الثاني الفرنسي الأصل ، على هذا الوترالحساس بشكل صريح في خطبته التي ألقاها في مدينة (كليرمون) ، 27نوفمبر 1095بجنوب فرنسا خلال المؤتمر الذي استمر عشرة أيام وحضره أكثر من ثلاثمائة من رجال الكنيسة ، فضلا عن الأمراء من مختلف أنحاء أوروبا، وقد استطاع البابا أن يثير حماس السامعين حيث بادر الحاضرون إلى اتخاذ الصليب شارة لهم .
إلا أن صيحات البابا كانت حاقدة ولا تفكر في العواقب وذلك عندما قال لأتباعه : " يا شعب الفرنجة، يا شعب الله المحبوب المختار، لقد جاءت من تخوم فلسطين، أنباء محزنة تعلن أن جنسا لعينا أبعد ما يكون عن الله قد طغى وبغى في تلك البلاد، بلاد المسيحيين في الشرق .. اذهبوا وأزعجوا البرابرة، وخلصوا البلاد المقدسة من الكفار، وامتلكوها لأنفسكم، فإنها كما تقول التوراة، تفيض لبنأ وعسلا " .
ومع أن هذا الخطاب كان موجها للمسيحيين عموما ، إلا أن البابا خص في حديثه هذا جنس الفرنجة من أجل التركيز على البعد العرقي، واعتبر أن الله قد ميزهم بموقع بلادهم، وبعقيدتهم الكاثوليكية، وعمل على تذكيرهم بالبعد التاريخي من خلال أمجاد شارل مارتل ، وشارلمان ، ومعركة بواتيه "بلاط الشهداء" 732م التي من خلالها تم وقف المد العربي الإسلامي وإعاقته عن ما وراء جبال البرانس .
وبعدهذا المؤتمر المشحون بالكراهية ، والذي يعتبربمثابة إعلان حرب على العرب المسلمين ، نظم الغزاة القادمون من أوروبا حملتهم الصليبية الأولى ، وتألفت الجيوش الأساسية من الفرنسيين المدربين جيدًا ، لذلك كان الفرنسيون يشكلون تسعين بالمائة تقريبًا من قوات الحملة الصليبية الأولى ، التي كان لنجاحها أثره في تأجيج الحماسة في صدور الأوروبيين ، إذ كان الناس يستمعون في شغف إلى أحاديث الصليبيين العائدين ،وكأنهم يستمعون إلى الملحمة الصليبية المعروفة باسم " أنشودة أنطاكية " ،التي تعكس، روح الانتقام .
وفوق ذلك فإن الزعماء الذين قادوا الحملات الصليبية كانوا في أغلب الأحيان من ملوك فرنسا وقادتها السياسيين والميدانيين ، وقد انعكس هذا الموقف الفرنسي على نسبة السكان الفرنسيين في المستوطنات الصليبية ، حيث كانوا هم الغالبية ، وهذا هو ما حدا ببعض المؤرخين أن يطلقوا على الصليبيين جميعًا اسم الفرنج ، لذلك يري الفرنسيون أن الرب قد اختارهم لهذا الدور"المقدس " في الحروب الصليبية ، لأن الدول الأوروبية في مجملها لم تكن جاهزة أنذك بما فيه الكفاية لقيادة الحملات الخارجية.
ففي ابريطانيا مثلا كان موقف وليم الثاني ضعيفا ، لأن بلاده كانت منشغلة بالتصدعات والانقسامات الهيكلية الداخلية ، أما الألمان فقد تأجج الصراع بينهم وبين البابا حول مشكلة التقليد العلماني خلال فترة الحروب الصليبية ، في حين أن القادة الإيطاليون لم يصلوا بعد إلى مرحلة النضج التي تكفل اشتراكهم في أي حملة خارجية ، وغير بعيد عن فرنسا فإن الأسبان المنهزمون في معركة الزلاقة في تلك الفترة والمتخوشون من المرابطين ، لن يسمح لهم وضعهم الصعب بالمشاركة في أي حملة مهما كانت أهميتها ، ولم تكن شعوب الدول الأسكندنافية في مجملها موردًا بشريا ، ولا رافدا لأي مجال من مجالات هذه الحملة نظرا لقلة عدد السكان .
أما في الجانب الآخر فقد وقعت الحملة الصليبية الأولى في وقت كانت فيه الأمة العربية الإسلامية تعاني من التشرذم السياسي، حيث فشلت في صد الموجة الصليبية الأولى، على الرغم من مواردها الهائلة فقد شعرت الجماهير بمدى عجز الحكام وامتلأت النفوس بمشاعر الإحباط .
وقد ساعد على ذلك أن البلاد العربية كانت موزعة بين عدة قوى سياسية متنافسة وكانت الحروب التي جرت قبل الحملة الصليبية بين إمارات حلب وحماة وحمص ودمشق تمثِّل ميراثًا هائلا من الحقد والشك فيما بينها حالت دون اتحادها في عمل مشترك ضد الصليبيين .
وكانت مصر وهي القوة العظمى في الأمة العربية الإسلامية ، يحكمها الفاطميون الشيعة ، وكانت تنافس سوريا والعراق على المستوى الديني ، والسياسي ، ويتهم كل طرف الآخر بالخروج على الدين واغتصاب السلطة .
غير أن هذا التشرذم الحاصل في جسم الأمة العربية الإسلامية في تلك الفترة ، لايعدو كونه مشابها لما تعيشه هذه الأمة الآن من تمزق وضعف وتناحر،فدمشق التي كانت تقاتل حماه وحمص وحلب أنذك ،عادت لتحاربهم من جديد ، أما العواصم العربية الأخرى فبات بعضها مغلوبا على أمره سياسيا ومحكوما طائفيا بالمذهب الشيعي .
كما أن الحكام العرب اليوم لايستطيعون الوقوف في وجه أي عدوان خارجي ، وحتى أنهم لايشعرون بما نراه ونسمعه من حملات التهييج المعادي للعرب المسلمين ، التي تقودها فرنسا اليوم بعد تعرض عاصمتها باريس لهجمات من طرف الدولة الإسلامية ، حيث ربطت فرنسا الإرهاب بالمنطقة العربية دون سواها .
ونتيجة لذلك أرسلت فرنسا حاملة طائراتها إلى المنطقة وقصفت الأراضي السورية وطلبت المساعدة من الاتحاد الاروبي ، والولايات المتحدة ، وروسيا ، ومجلس الامن ،وتمت الموافقة على جميع طلباتها ، ومع ذلك دهمت 793منزلا عربيا في فرنسا ، فضلا عن دهم المساجد وبيوت أإمتها ، وقامت بحملة إعلامية ودعائية وتحريضية غير مسبوقة ضد العرب المسلمين .
كما تعاقب أعضاء الحكومة الفرنسية على المنصات وبرعوا في عرض أفكارهم وإخفاء البعض الآخر، واستغلوا التعاطف العالمي وكراهية الغرب للمسلمين العرب ، وعقدوا الاجتماعات مع جميع المنتخبين واعتبروا أن فرنسا قد دخلت في زمن جديد ، وقيدوا الحريات بغية ملاحقة ومضايقة المهاجرين العرب ، وطلبوا من الاتحاد الاروبي اتخاذ نفس الإجراء ،وتم لهم ذلك ، وقد شجع هذا الجوالمشحون بالكراهية السياسيين والإعلاميين والعنصريين في بعض الدول الغربية على الإساءة علنا وبدون حياء على العرب المسلمين .
غير أن ماقامت به فرنسا اليوم من خلال ملحمة التهييج التي تقودها بدهاء ضد أمة بعينها ، سوف يذكرنا بما قامت به بالأمس من حملات صليبية ضد نفس الأمة ، " فما أشبه اليلة بالبارحة " .
باباه ولد التراد