تحل اليوم ذكرى انقلاب الرئيس السابق معاوية بن سيد أحمد الطايع في 12-12-1984... وهذه المناسبة تعود بي مع الذكريات 28 سنة إلى الوراء... كنت يومها تلميذاً في الثانوية العربية بانواكشوط... ولذلك كنت أؤجر غرفة -كما كان الطلاب يومذاك يفعلون في "المدائن"- قريباً نسبياً من الثانوية...
وكنت مع بعض أصدقائي الفيسبوكيين الآن -مثل ابن عمنا الصحفي اللامع -ما شاء الله- في "الجزيرة" محمد فال بن بوخوصة- ندرس معاً يومها في نفس الفصل ونراجع معاً أحياناً أيضاً في تلك الغرفة من مدينة "أر" قرب ما كان يسمى "سويق الجير".
وكانت الساعة قريبة من الثالثة ظهراً وهو وقت الذهاب إلى الثانوية، فانطلقت مع شارع طريق الأمل المتجه من العيادة المجمعة إلى الثانوية العربية، وكان من عادتي ألا أغير طريقي إلا نادراً... ولذلك كنت أمر كل يوم من أمام باب قيادة أركان الحرس الوطني... ليس من الجهة الأخرى المقابلة لها من الشارع... بل من عند بابها مباشرة... وأحياناً أمر خلف الجندي الخفير المسلح الواقف مداوماً عند البوابة... وقد نهروني عدة مرات عن المرور من ذلك المكان... وبعد ذلك ملوا وصرت أمر كل يوم دون أن يعلق أحد... ولست وحدي في ذلك... فكثيرون مثلي كانوا يكسلون عن قطع الطريق ويمرون من أمام باب الحرس... لأن الأمور الأمنية حينها كانت -تقريباً- تمشي بالبركة! لكن في ذلك اليوم بالذات بمجرد أن تجاوزت مطعم زبيدة المقابل للمصور العالمي... وقبل أن أصل إلى حائط القيادة بخطوات وجدت مصفحة عسكرية وجنوداً يحملون رشاشات كلاشنكوف... وهم ينهرون كل من يقترب منهم ويأمرونه بالابتعاد... فقطعت الشارع مضطراً هذه المرة... وكان الناس يتجمعون مقابل قيادة الأركان... ويتشجع بعض من يعرفون الجنود ويسألونهم:
"الأخبار شنهي؟... أياك أللا الخير"... وكان الجواب جاهزاً في كل مرة: "الصيد رحنا منه"! وحين سألت عن "الصيد" الذي ارتاحت منه البلاد والعباد... عرفت لسخرية الصدف أنه الرئيس هيدالة الذي كان حتى صباح ذلك اليوم معبود الإذاعة والتلفزة الوطنية... والقائد الأعلى للقوات المسلحة... والزعيم القائد البطل المبجل... مطبِّق الشريعة... ولكن ذلك التقلب للأمزجة والولاءات جعلني، كما قال الشاعر الشعبي بودربالة، "نحكم راسي عن الفتنة... واعطاني لمحة عن عاصمتنا".. لانساق أنا أيضاً مع موجة الحمد والشكر على راحة البلاد والعباد من ذلك "الطاغية" المخلوع.
وحين وصلت إلى الثانوية ودخلنا الفصل كان أستاذنا للغة الفرنسية وهو يومذاك فرنسي يدعى "كروتييه" يشرح درسه دون همّة وسط هرجة الحديث عن الانقلاب... وحين تشتد الهرجة يتوقف عن الدرس ويجلس بصبر في انتظار أن تخف... دون أن يعيره أحد اهتماماً... وبعد تمام حصته حضر أستاذ الإنجليزية وهو تونسي يدعى "محمد ساسي"... وبسرعة استنتج هو الآخر ألا صوت يعلو فوق صوت حديث الانقلاب والفرح الغامر الباهر، فأطلق سراحنا وأعتق رقابنا لوجه الله، وذهب في حال سبيله، جازاه الله خيراً... وكان معنا تلاميذ لهم أقارب يقبعون في سجون هيدالة... وكانت كل التوقعات تشير إلى أن قائد الانقلاب الجديد العقيد معاوية سيطلق سراحهم فوراً.
وعندها انطلقنا جميعاً إلى شارع جمال عبدالناصر جهة الإذاعة... وكنا متجمهرين حول الأرصفة الواقعة بين الإذاعة والولاية والإدارة الجهوية للأمن الوطني... وفجأة ودون سابق مقدمات... حدث كل ما كان متوقعاً... دفعة واحدة... فانطلقت –حتى لا أقول تفجرت- مسيرات الفرح والتأييد... فراحت عشرات السيارات تنهب الشارع وهي تقل نساء ورجالاً وأطفالاً يغنون ويهتفون ويلوحون بأغصان الأشجار... وبعضهم يحمل صور الرئيس الجديد معاوية... وقد ظلت تلك المسيرات "العفوية" مستمرة حتى منتصف الليل.
وفي اليوم التالي تحولت العاصمة كلها إلى مسيرة واحدة تقريباً بنفس مظاهر الفرح والحبور... والغبطة والسرور... وبدأت قصائد الشعراء تتهافت في لعق أحذية "الثورة المباركة"، مرحبة بالقائد الجديد الفريد... العجيب الغريب... الطويل العريض... الحبيب الحسيب النسيب.. هدية الألطاف... كامل الأوصاف... البطل الهمام الصمصام... الجميل الجليل... صاحب الظل الطويل... الشمقمق بن أبي الشمقمق... قل أعوذ برب الفلق... اللهم لا عين ولا حسد... وانطلق بعض حطيئات الإعلام الوطني -كالعادة- يدبجون بإنشائياتهم الرديئة إلياذات وملاحم من الهجاء المقذع للرئيس المخلوع هيدالة... فجاءوا بالطم والرم والعجب العجاب... وقالوا عنه ما لم يقل مالك في الخمر... وما لم يقل ابن الرومي في عمرو... وأين ذاك الهجاء من رأي جرير في الراعي والأخطل... وأين منه موْجدة الزبرقان على جرول؟!
وفي المساء بعد صدور قرار العفو تضاعف حجم مسيرات التأييد والمساندة... وفتحت أبواب قصر الرئاسة لأول مرة أمام الجمهور العريض للتعبير عن التأييد والمساندة... وكنتُ ضمن ذلك الجمهور العريض- المريض بالموالاة الموجود الآن على شريط فيديو فيسبوكي هزيل... اللهم استرنا بسترك الجميل... وكانت تلك هي "زيارتي" الأولى والأخيرة إلى القصر، الذي كان يومها لا يزال عادياً، وليس رمادياً... -والندم على ما فات والنية ألا أعود- حيث كنا نتزاحم بعشرات الآلاف داخل فناء قصر الرئاسة الأمامي الموالي لشارع جمال عبدالناصر... والممتد من زاوية سور القصر الجنوبية الغربية القريبة من البنك المركزي حتى الجنوبية الشرقية المصاقبة للمطبعة الوطنية -جريدة الشعب حينها- وبسرعة برز علينا من القصر معاوية في ملئه وهم زمرة من العقداء والمقدمين والضباط زعم أنهم أعضاء قيادة الانقلاب الجديد- السعيد... ووقف الزعيم المفدى الجديد... وخطب خطبة بتراء غير عصماء بجمل من فرنسيته العسكرية -المعقولة مع ذلك عموماً... وكان في مقدمة الجمهور سيدة من أسرة مشهورة... وكان بعض أقاربها ضمن من أطلق سراحهم... وقد ألقت كلمة خاطبت فيها معاوية قائلة: ليتك سيدي الرئيس أعلنت استقالتك في هذه اللحظة... حتى تذهب ونحن ما زلنا نحبك... سيدي الرئيس إننا نحبك... والله إننا نحبك من كل قلوبنا... ونخشى أن يأتي يوم وتذهب ونحن نكرهك أيضاً من كل قلوبنا... البلاء موكل بمنطق الإنسان... سبحان الله -وبحمده- فقد كـــان.
اعتبر كلام السيدة يومها موبقة من الموبقات... ونشازاً غير مقبول... ولغواً من القول غير معقول... هذا إن لم يكن فألاً سيئاً... إذ ما معنى ذهاب رئيس –لا قدر الله- وصل إلى السلطة قبل يومين؟
ولكن أثبت التاريخ... وأثبتت السياسة... وأثبتت وقائع سنوات الجمر والرصاص المنحوسة... وأثبتت المجازر والمذابح والمسالخ... وأثبتت أقبية سجون نظام 12-12... وتحطيمها للأرقام القياسية في التعذيب وانتهاك حقوق الإنسان... وأثبتت جمهورية سلطة الخوف و سطوة الجلاد... وأثبتت عودة القبلية والجهوية الكريهة في أردأ أشكالهما... وأثبت تغول الفساد والاضطهاد... ووصول أحوال الفقر والفاقة إلى منتهاها... وأكل أزلام النظام لناقة الله وسقياها... وأثبت انتكاس السياسة التوسلية –حتى بالتطبيع مع الصهاينة- وإفلاس الاقتصاد التسولي، على موائد لئام صندوق النقد... وأثبت انتشار الاستبداد والفساد في البر والبحر... وهلاك الحرث والنسل والبشر والحجر والمدر... أثبت كل ذلك –وما خفي كان أعظم- أن كلام تلك السيدة كان كلاماً ثميناً... رصيناً... وأن فخامة الرئيس معاوية لو كان استمع إليه لكان اليوم ذاك الرجل المحبوب... المتوج في القلوب... ولكنه اختار طريق الندامة... نسأل الله لنا وله العفو يوم القيامة... فخُلع هو أيضاً في يوم أغر... وما يوم المذيعة فاطمة –بنت شيخنا- بسر... لعلي قد أطلت... وأمللت؟ دعونا إذن من غواية السجعة... وذكريات الفجعة... فذلكم كلام آخر... لا أول له ولا آخر... ما زلنا لم نعجم يمناه من يسراه... وما هذه ذكراه... فلكل حادث حديث... والله جل شأنه يميز الطيب من الخبيث... وهو سبحانه الغفور الرحيم التواب... نسأله حسن الخاتمة وخير المآب... وهو المستعان... عليه التكلان... سبحانه لا إله سواه.
حسن ولد احريمو