موقف البعض من بيع المدارس، أو على الأصح "الأطلال" سيئة العمران والتصميم، التي لا تتوفر على أي مقومات تجعلها صالحة لأداء دورها، حيث لا ساحات مرح وفسحة للتلاميذ معزولة وآمنه، ولا ساحات لإقامة الحدائق المدرسية، ولا مخارج إنقاذ وإجلاء عند الضرورة، ولا أماكن لتوقف سيارات الطواقم التربوية وأولياء أمور التلاميذ عند المجيء لتوصيلهم أو أخذهم عند الخروج، ولا محيط مناسب للتدريس، بل أسواق ومخازن وتجار وحمير وضجيج وغبار .. الموقف من بيع هذه المدارس إذن هو دعاية ملأ بعضهم الآفاق بها، وحملها بعضهم الآخر معه ك "غسيل سياسي داخلي" إلى ما وراء البحار لنشره على "حبال" وصفحات ومنابر الصحف والإذاعات الفرنسية..!
لكن الصحافة الفرنسية متعددة ومتنوعة، تعدد وتنوع مشاربها ومصادرها، فما إن أستلقى من حملوا هذه الدعاية لبعضها على ظهورهم منتشين بما قدموه لها من معلومات، منتظرين " الزلزال " الذي سيحدثه ذلك في الساحة الداخلية، حتى خصصت صحف فرنسية أخرى أعرق وأهم لا تقل مصداقية، صفحات وافتتاحيات لتغطية احتفالات موريتانيا بالذكرى الخامسة والخمسين لاستقلالها، معتمدة في ذلك على مراسليها المعتمدين، لا على المراسلين " الموسميين.."
فتحدثت تلك الصحف عن الإقلاع الاقتصادي الذي تستعد وتتهيأ له البلاد، وعن الأسس و " المنصات " التي وضعتها لذلك الإقلاع.. فتحدثت عن مشروعات الطاقة الكهربائية وما تعد به من آفاق تنموية، وتحدثت عن الجيش والمكانة التي أصبح يتبوؤها في المنطقة، متوقفة بالدقائق عند ال 150 دقيقة التي دامها استعراض وحداته وعتاده، وعن الأمن والاستقرار الداخلي، وعن الموانئ وتوسعتها وبنائها المتسلسل على طول شاطئ المياه الإقليمية وتضاعف الحركة المينائية.. وعن المطار الجديد والمكانة التي سيحتلها كمحطة التقاء دولية وأداة ربط بين قارات ومناطق عديدة.. وطبعا لو كنا نحن " المغفلين والمطبلين " هم من أستخدمنا عبارة الإقلاع الاقتصادي هذه لأخذنا حظنا، وزيادة، من السخرية والتسفيه.. لكن الكلام لصحيفتي ( Le Paris Match ) و ( La Tribune ) في تغطية ورصد ومواكبة لحدث وطني هام، لا في مقابلة تحت الطلب..!
فهذه المدارس ليست وقفا ولا حبسا ولا " حائط مبكى "، وإنما هي حجرات تم بناءها في ظرف خاص كانت البلاد خلاله في طور النشوء، وبحاجة ملحة لبنى تحتية مدرسية، على عجل، بهدف تكوين ما تسد به النقص الحاد في الأطر والموظفين، فتم بناء تلك المدارس المغطى أغلبها بالقصدير، مثلها مثل المساكن المتواضعة التي بنتها الدولة آنذاك للرئيس وكبار المسؤولين، ومثل السوق المركزي والمسلخة والمطار وغيرها من المرافق التي شيدت في تلك الفترة لسد الحاجة انتظارا لتوفر الامكانات لتشييد ما هو أفضل منها.. كما أن هذه المدارس عندما بنيت آنذاك كان سكان العاصمة لا يتجاوزون عشرين أو ثلاثين ألفا، وكلهم متجمعون في مركز المدينة الذي أصبح اليوم مركزا للأنشطة التجارية والخدمية، وانتقل أغلب سكانه الأصليين إلى الأحياء الشعبية الجديدة..
ويكفي لمن هو مهيأ " نفسيا وسياسيا " لأن يقتنع بأن الهدف من بيع بعض المدارس هو فقط لانعدام أهليتها للتدريس، أن الدولة تملك اليوم عشرات الهكتارات في العاصمة خارج المدارس أو مدرسة الشرطة أو الملعب.. فهي تملك كل الأحياء القديمة المعروفة ب " المدائن " وجزء كبيرا من الأحياء المعروفة ب " سوكوجيم " بالإضافة إلى الكثير من المساحات الأخرى التي هي الآن خالية إلا من هياكل السيارات وغابات الأشجار، مما يجعلها في غنى عن بيع ست مدارس هي في مجموع مساحتها لا تبلغ هكتارا واحدا..!!
فلا بأس إذن ببيع كل مدرسة لم تعد مستجيبة لظروف التدريس إن نحن واصلنا، كما بدأنا، تعميم وتسريع بناء المدارس النموذجية ذات الطابع المعماري الموحد، والتي تتماشى مع مكانة وهيبة العلم والتعليم.. بأبهتها وبتعدد أقسامها وقدرتها على استيعاب أكبر عدد من التلاميذ المندمجين في مؤسسة واحدة بكافة شرائحهم وألوانهم، القابلة للرقابة، الموفرة للوقت على الطواقم التربوية والمفتشين في التنقل بين أكثر من مدرسة، والمتوفرة على كافة متطلبات المدرسة العصرية من أرضيات خضراء وأشجار ظليلة ودورات مياه، مع الصيانة الدورية لذلك كله.
فقد تجولنا في العديد من العواصم، ولم نجد مدرسة ولا معهدا ولا جامعة في مركز المدينة الذي هو مكان معهود للفنادق والبنوك والمؤسسات الخدمية والتجارية وممثليات الشركات الصناعية.. فالمعاهد والجامعات في أطراف المدن بأماكن هادئة مناسبة، أما المدارس فهي في الأحياء السكنية الشعبية. صحيح أن الفوضى العمرانية التي سادت في عقود سابقة لم تترك ساحة لبناء مدرسة ولا مستوصف ولا سوق..! لكن يمكن للدولة شراء مبان سكنية متجاورة في الأحياء الشعبية واستغلال مساحتها في بناء ما هي بحاجة إليه من مدارس وغيرها من مرافق عمومية..
ويبدو أن هناك من هو " نساي " أو متناس أو غير مطلع ولم تتفتح عيناه قبل اليوم، فقد بيعت في عهود سابقة الشوارع والساحات في العاصمة، وبيع معظم المباني الحكومية في عواصم الولايات والمقاطعات، فبيعت مقرات البريد والمواصلات، ومقرات الحكام، ومخازن مفوضية الأمن الغذائي، ومباني المندوبيات الجهوية للصحة والتعليم والتنمية الريفية.. وكان ذلك (..) بثمن أقل من بخس، خمسون ألف أوقية للمبنى وأحيانا بأقل من ذلك " خاتم من حديد "..! ولا مزاد علني ولا هم يحزنون، بل مجرد رسالة أو اتصال هاتفي يأتي للوالي أو الحاكم بأن سلم المبنى الفلاني لفلان، وما حال بينهم وشراء المدارس هو فقط أنهم لم يطلبوا شراءها!!
فهل هناك أغلى مما تملكه البلاد كعصب ومفخرة اقتصادها، والمغذي الأول لخزينتها، المشغل للآلاف من أبنائها، شركة " اسنيم " ؟ ألم يتم عرضها للبيع وحُدد المشتري والثمن وذلك في عهد " ديمقراطي عُمَري " لو استمر لغزانا العالم غيرة منه وحسدا عليه، وكان لذلك العهد حينها شركاء سياسيون " يبخون " البصل في عيونهم اليوم لذرف الدموع على بيع أطلال وحطام ست مدارس؟!!