يحتج من يعترضون على تخليد عيد المولد النبوي الشريف بحجج تتركز في أن هذا العيد لم يكن من عمل سلف أمتنا الصالح، وأنه من اجتهادات العبيديين الشيعةوبدعهم، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يولد في الثاني عشر ربيع الأول على الأصح
وأنه مات بالقطع في هذا التاريخ؛ فالمحتفل بالعيد فيه محتفل بوفاته لا مولده عليه الصلاة والسلام، وأن السنة في يوم المولد هي الصوم تأسيا بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يصوم في يوم الاثنين ويقول : هو يوم ولدت فيه.
ولكن هذه الحجج والأدلة لم تصمد أمام حجج القائلين بتخليد هذا العيد شكرا لنعمة إيجاد الحبيب البشير الشفيع صلى الله عليه وسلم وذكرا للجناب الأطهر بما هو أهل له من مدح وتقدير وتوقير..
فأما قولهم بأن الاحتفال بعيد المولد النبوي الشريف من اجتهادات العبيديين وبدعهم فغير صحيح لأن الاحتفال بعيد المولد النبوي الشريف ظهر أول ما ظهر بعد اندثار الدولة العبيدية الشيعية بزمن طويل، لقد كان في عهد الدولة الأيوبية السنية وعلى يد زوج أخت صلاح الدين الأيوبي الملك المظفر علي بن بَكْتَكْتِينْ، وهو من الملوك النادرين الموصوفين بالورع والعلم والصلاح فقد وصفه ابن كثير بأنه كان إماما عادلا بطلا عاقلا، و وصفه ابن سبط ابن الجوزي في مرآة الزمان بأنه كان زاهدا لباسه إذا ترك كرسي الحكم وعاد إلى داره قميص من كرباس لا يزيد ثمنه عن خمسة دراهم، نقل ذلك ابن خلكان وابن كثير وابن سبط ابن الجوزي والسيوطي وآخرون،
فالقول بأن عيد المولد النبوي الشريف بدعة عبيدية غلط جسيم وخبر لا يستقيم.
وأما قولهم إن ولادة عظيم الخُلق سيد الخَلق صلى الله عليه وسلم في الثاني عشر من ربيع الأول مسألة لم يقطع بها وأن وفاته في هذا التاريخ مؤكدة فالمحتفِل فيه محتفل بالوفاة لا بالولادة، فقول باطل كسابقه؛ فالمُتحقق منه والثابت الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم لم يتوف في الثاني عشر ربيع الأول لأن العلماء اتفقوا على أنه صلى الله عليه وسلم وقف يوم الجمعة التاسع من ذي الحجة وتوفي يوم الاثنين من شهر ربيع الأول، قال ابن حجر العسقلاني في فتح الباري : "فمهما فرضنا أن الشهور الثلاثة (محرم وصفر وربيع الأول) توام أو نواقص أو بعضها لم يصح" أي لم يصح أن يكون يوم الاثنين الذي توفي فيه الرسول صلى الله عليه وسلم موافقا للثاني عشر من ربيع الأول، نقل ابن حجر هذا الكلام عن السهيلي، وذكره السمهودي في وفاء الوفاء، وتواتر عليه جمع وافر من العلماء فلم يروا عنه مصرفا مقبولا، كما أوضح ذلك ابن حجر العسقلاني في كتابه فتح الباري، بل الأصح في تاريخ وفاته صلى الله عليه وسلم أنه يوم الاثنين الموافق للثاني ربيع الأول، قال ابن حجر : وكأن سبب غلط غيره أنهم قالوا مات في ثاني شهر ربيع الأول فتغيرت لفظة ثاني شهر إلى ثاني عشر واستمر الوهم في ذلك يتبع بعضهم بعضا من غير تأمل،
وهذا القول الذي عضد ابن حجر ووافق ترجيح أبي مخنف والسهيلي والسمهودي وآخرون كثر مطابق للحساب الوارد في الحديث الحسن الذي معناه أنه صلى الله عليه وسلم عاش بعد نزول آية اليوم أكملت لكم دينكم واحدا وثمانين يوما فواحد وثمانون يوما من الجمعة التاسع ذي الحجة توافق الاثنين الثاني ربيع الأول ولا يصح بحال من الأحوال أن تصل إلى الثاني عشر منه!
وأما قولهم بأن السنة في تخليد المولد هي بصيامه لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يصوم يوم الاثنين ويقول هو يوم ولدت فيه فهو قياس لا يصح فالعيد أحيانا يكون يوم الأربعاء وأحيانا يوم الخميس وهكذا إلى كمال أيام الأسبوع والرسول صلى الله عليه وسلم صام يوم الاثنين فقط ولم يبحث أبدا عن ذكرى مولده ليخلدها بالصيام ولو عكسوا القياس لكان أسلم لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يفطر يوم الاثنين إذا وافق أحد أيام العيد وفي هذا الإفطار تنبيه على أن مشروعية العيد أقوى من مشروعية الصيام ولهذا اتفق الجل من فقهاء الأمصار المعتبرين على منع صوم يوم المولد ولو وافق يوم الاثنين قياسا على الأضحى والفطر.
وأما قولهم إن تسمية ذكرى المولد النبوي الشريف عيدا لا تجوز لقوله صلى الله عليه وسلم: إن الله شرع لكم عيدين عيد الفطر وعيد الأضحى ومن زاد عيدا ثالثا فقد زاد في الشرع ما لم يأذن به الله، فهو كلام من لا أهلية له في العلم لأن قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله شرع لكم عيدين" ليس من صيغ الحصر حتى يحرم بها الاحتفال بعيد ثالث بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقصر لفظ العيد على يومي الأضحى والفطر فسمى الجمعة عيدا وسمى أحد أيام منى عيدا كما ورد في إحدى روايات البخاري في قوله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: "دعهما فإن اليوم يوم عيد".
وأما قولهم بأن عيد المولد النبي الشريف عيد مذموم لكونه من البدع التي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" فغير صحيح لأن العلماء نصوا على أن الْمُحدث الموصوف بالبدعة لا بد أن يكون مما لو اعتبر الشرع لم يكن له فيه أصل، وهذا بخلاف عيد المولد النبوي الشريف فإن من العلماء من رده إلى أصل من السنة كما فعل الحافظ ابن حجر العسقلاني الذي رده إلى حديث صيام النبي صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء وقوله عن اليهود: "نحن أحق بموسى منهم" ثم دأب على تخليد صيامه كل عام وهو حديث صحيح مشهور وقال يستفاد منه التخليد السنوي شكرا لله على جلب نعمة أو دفع نقمة، والشكر يحصل بالصيام ويحصل بالإطعام وسائر العبادات، ويؤيد فهم ابن حجر تخليد النبي صلى الله عليه وسلم عاشوراء كذلك بالإطعام والتوسعة على العيال، وأحاديثه صحيحة صححها الأيمة،
وخرّج الإمام السيوطي عيد المولد على أصل آخر من السنة رواه وصححه وهو حديث أنه صلى الله عليه وسلم عق عن نفسه بعدما كبر، وخرّجه بعض العلماء على أصل ثالث من السنة وهو قوله صلى الله عليه وسلم في سبب تفضيل يوم الجمعة واتخاذه عيدا هو يوم خلق الله فيه آدم ، قال: "ومفهوم الحديث تفضيل الاثنين وجواز أن يُتخذ عيدا لأن الله خلق فيه محمدا صلى الله عليه وسلم الذي هو أفضل من آدم بالإجماع.
وخرّجه بعض العلماء على أصل رابع من السنة وهو الحديث الذي رواه الهيثمي في مجمع الزوائد وصححه، ونقله ابن حجر في الفتح ولم يضعفه، وهو أن جبريل مر برسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء بموضع وأمره أن يصلي فيه ركعتين ثم قال له، أتدري أين وصلت قال لا؟ ، قال صليت ببيت لحم حيث ولد عيسى، قال يستفاد منه تخصيص آثار الأنبياء ببعض القربات.
وخرجه بعض علماء الشافعية على أصل قرآني هو قوله تعالى: (خذ العفو وآمر بالعرف) نقل ذلك الشعراني في اللطائف.
وخرّجه بعض العلماء على أصل قرآني ثاني هو قوله تعالى: (فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون)، فعده من التعزير المأمور به.
وخرّجه علماء على أصل قرآني ثالث هو قوله تعالى: (ورفعنا لك ذكرك) فجعله مما يؤدي إلى ذكر النبي صلى الله عليه وسلم واشتهار دعوته.
وخرّجه بعضهم على أصل قرآني رابع هو قوله تعالى: (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا) فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرحمة المأمور بالفرح بها،ـ لقوله تعالى في مكان آخر : (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين).
وأما قولهم كيف يكون عيد المولد من القربات المحمودة والسنن الحسنة وهو لم يكن من عمل السلف الصالح في القرون المزكاة؟ فجوابه أنه ليس كل ما وقع من القربات والسنن المحمودة وقع في القرون المزكاة، بل لم تزل القربات والسنن المحمودة تستجدُّ منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا فمن هذه القربات والسنن ما سبق إليه بعض السلف الصالح بعضا، ومنها ما سبق إليه السلف الخلفَ، ولكل منهم أجره الذي قسمه له رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه الصحيح: (من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة)، فهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه جمع القرآن وكان عمر رضي الله عنه يراجعه في ذلك ويقول له كيف تفعل أمرا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! وأبو بكر يجيب: هو والله خير، وهذا عمر جمع الناس على صلاة التراويح ثم قال نعمت البدعة، وهذا عثمان زاد أذانا ثانيا في الجمعة، وسك عبد الملك بن مروان النقود الإسلامية وأقام ابنه الوليد المآذن في المساجد كما أضيفت إليه المحاريب وشكل الحجاج بن يوسف المصحف، ونقطه، وحزَّب القرآن، وسلم العلماء كل هذا واعتبروه من السنن المحمودة المثاب فاعلها، ودونت الدواوين وجمع الحديث وفرعت الفروع وأنشئت المدارس والمستشفيات، وأخيرا أضيفت مكبرات الصوت للمساجد وأنشئت إذاعات القرآن والجمعيات الخيرية والبنوك الإسلامية.
وبالجملة فإن هذا العيد المبارك اتفق عليه علماء الأمة من مختلف المذاهب في زمن ظهوره وما بعده ولم يشذ عن ذلك إلا القلة القليلة غير المعتبرة، يقول شيخنا الشيخ محمد الحسن بن احمدو الخديم حفظه الله في نظمه العذب الشهي المورد، في تعظيم شأن المولد :
والقسطلاني في المواهب العمل = من أهل الإسلام على ذا لم يزل
قال وجُرِّبَ لأمن العام = وعاجل البغية والمرام
ولمزيد الإيضاح والتفصيل في هذا الباب يرجى تتبع ما نقل السيوطي والقسطلاني والشامي والحلبي والقارئ الجزري والعراقي وابن حجر العسقلاني وغيرهم.
اللهم حقق لنا بحبه وحب سنته صلاح الحال والمآل،
اللهم وفقنا لتخليد عيد مولد شفيع الخلق في يوم الحق ومعرفة سيرته وتدبر شمائله وتحبير أمداحه وحبه وحب آله وصحبه وكل المنتمين إلى حزبه،
ربنا لا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنو ربنا إنك رؤوف رحيم.
وصلى الله وسلم وبارك على محمد وآله وصحبه.