إلى هنالك .. أسابق الزمن وعادياته وسوافيه اللافحة، وريح سمومه العاتية، وسيوله التي تجرف الصخور جرفا، أتسلل من بين فجوات كدى آدرار الوردية وكهوفها المغبرّة، أتسلق مع أرنب الجبل، أسير حيث تسير الركبان وحيث تعرّس القوافل وتحط رحالها إذ تلألأت نجوم الليل في الأفق الفسيح ، و حيث تطاول واحات النخيل الباسق تلك جبال الشم. أنظر ذات اليمين وذات الشمال فأرى جبالا تمتد وتمتد على مد البصر كأنها عارض نوء ممطر في ركن الأفق الشمال الشرقي.
في ذلك الأصيل الذهبيالهادئ وفي لحظة نسيم من إدبار النهار وانحناء الشمس نحو الغرب كانت تتراءى لنا قلعة هنالك تحفها ديار من الطوب تحتضن القلعة واحات فيحاء تتناثر في رمال فضية على شكل حبات سبحة، تتوسط القلعة منارة من الطين تتراقص على وقع سير السيارة.
إنها قلعة "ودان" وما أدراك ما تلك القلعة؟ هي التي حدثنا الأوائل عنها، و تناقلت الركبان أخبارها، فكم من قافلة باتت ليالي هنا في طريقها إلى شنقيط ومنها إلى ولاته فتمبكتو ذلك الطريق التاريخي الحلزوني المعهود عند جدودنا ـ معاشر الصحراويين ـ لا بد أن نذهب ونقف قليلا ونستريح على سفح جبل وادان نتنفس عبق التاريخ ننظر بهدوء منقطع في خطوط المئذنة وزركاشتها نهمس في أذنها .. نسائلها:
أيتها المئذنة .. حدثني عن تاريخك البعيد.. من أول يوم أسست على التقوى والعلم .. فكم من مؤذن صعدك فرفع صوته عاليا في الهواء الطلق : الله أكبر الله أكبر.. أشهد أن لا إله إلا الله .. أشهد أن محمدا رسول الله.. حدثيني عن قصة الحجاج الثلاثة الذين قدموا إلى هذه الأرض قبل سبعة قرون ماضية، فأعلنوها قلعة علمية دعوية تشع افريقيا كلها..
حدثيني أيتها المئذنة عن طلاب باتوا هنا يسامرون لياليهم المدلهمة، يوقدون نيرانهم الخافتة فيحفظون متون العلم حتى يصدرون إلى بلاد المغرب الأخرى.. قوم ما عرفوا سوى العلم والتعلم بكرة وأصيلا (رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله).
حدثيني ـ أيتها المنارة عن تلك القرون الغابرة فأنا القادم إليك من عصر لاحق لا يعرف عن تلك العلوم ويعجب كل العجب كيف صمد أولائك الرجال في هذه التضاريس القاسية، حدثيني عن سلسلتك الذهبية اللاحقة : الطالب أحمد ولد أطوير الجنة، الشريف عبد المومن، الشيخ سيدي عبد الله ولد الحاج ابراهيم، وغيرهم، فكم سمعت عن هؤلاء شعرا ونثرا وقّصصا، أما وقد وصلنا ركنك فنريد الحديث منك ومنك وحدك، أنت الشاهدة عليهم وعلى صمودهم وسهرهم على العلوم..
أسائلك إذ لا تجيبيني ـ وأنت الباقية من الشهود على تلك العصور الغابر، وأنت الصامدة عبر كل العاديات، وأنت التي صمدت وتحديت كل عوامل التعرية وما زلت واقفة وقوف الجبال من حواليك.
أسائلك أيتها المئذنة عن قوم كانوا ذات تاريخ لا تغيب عنهم أصوات الطلاب ولا يمر المرء من شارع إلا ورأى عالما من العلماء في شارع "أربعينك" المعروف.
أسائلك أيتها المنارة عن التاريخ البعيد والقريب فمالك لا تجيبني؟؟
مختار بابتاح