بوسع الأشجار التي سنتحدث عنها في السطور المقبلة أن تتحرك بحق؛ تماما مثل "الكائنات" الآلية، التي تجمع ما بين هيئة النبات وقوام البشر، والتي ظهرت في سلسلة الأفلام الملحمية "سيد الخواتم" للكاتب الإنجليزي جيه آر آر تولكين. لكن هل يمكن لهذه الأشجار السير بسرعة كافية للنجاة بنفسها من المناشير الكهربائية والمناجل التي تهددها؟
يستغرق الأمر يوما كاملا للسفر من مدينة كيتو، عاصمة الإكوادور، إلى قلب محمية سوماكو بيوسفير، الواقعة على بعد نحو 100 كيلومتر إلى الجنوب الشرقي من هذه المدينة، والمدرجة على قوائم منظمة (اليونسكو) للتراث.
وتتضمن الرحلة مرحلة يقطعها المرء بالسيارة على مدى ثلاث ساعات حتى يصل إلى حافة الغابة الموجودة في المحمية. وتتلو ذلك مرحلة أخرى تستغرق ما يتراوح ما بين سبع إلى 15 ساعة، يقطعها المسافرون على متن قوارب وعلى ظهور البغال وكذلك على الأقدام.
ويمضي الجانب الأكبر من هذا الطريق صعودا ثم يمر بأرض مُوحِلة إلى أن يصل بك إلى المناطق الداخلية من المحمية. ولكن الأمر يستحق كل هذا العناء، بالنظر إلى أنك ستجد نفسك في نهاية المطاف في قلب غابة بكر، تضم بين جنباتها كذلك اكتشافا غير عادي: أشجار نخيل قادرة على الحركة من مكانها.
وتبدو هذه الأشجار مماثلة لكائنات "إنتس"، تلك "الكائنات" الآلية التي تمزج في شكلها ما بين هيئة النبات وقوام البشر، والتي ظهرت في السلسلة الملحمية " سيد الخواتم"، للكاتب الإنجليزي جيه آر آر تولكين (ولكنها هذه المرة أدنى منها سرعة قليلا). وتتحرك أشجار النخيل هذه عبر الغابة بفعل نمو جذور جديدة لها، تؤدي إلى تغير مواضعها تدريجيا، بما يتراوح ما بين سنتيمترين إلى ثلاثة سنتيمترات يوميا.
ويقول بيتر فرسنسكي وهو عالم في مجال الحفريات بمعهد علوم الأرض التابع للأكاديمية السلوفاكية للعلوم في براتيسلافا: "مع تآكل التربة، تنمو للأشجار جذور جديدة وطويلة تجد لنفسها تربة جديدة أكثر تماسكا، بعمق يصل أحيانا إلى 20 مترا".
ويضيف فرسنسكي: "من ثم، وببطء، ومع استقرار الجذور الجديدة في قلب تربتها الجديدة بدورها، وانحناء (جذوع) الأشجار بأناة صوب تلك الجذور، ترتفع الجذور القديمة في الهواء. ويمكن أن يستغرق الأمر بضع سنوات لكي تكتمل تلك العملية التي تشهد تغير موضع الشجرة إلى مكان جديد تغمره أشعة الشمس على نحو أفضل، وتتوافر فيه تربة أكثر تماسكا".
وقد أمضى هذا الباحث، وهو مرشد محلي، ومعه ناشط في مجال الحفاظ على البيئة يُدعى تيري غارسيا، الشهور القليلة الماضية في الغابة لرصد التهديدات التي تُحدِقْ ببعض العجائب الحيوانية والنباتية الموجودة فيها.
ويقول فرسنسكي: "اكتشفنا خلال جهودنا الاستقصائية وجود شلالات يصل ارتفاعها إلى 30 مترا، ولم تكن مُسجلة من الأصل، وكذلك نوعيّن جديديّن من الحيوانات الفقارية (أحدها لسحلية والآخر لضفدع) كما هوجمنا من جانب قطيع كبير من السعادين من نوع 'السعادين الصوفية' وكانت ضخمة الحجم بحق. كانت ترشقنا هذه الحيوانات بكل شيء، بما في ذلك فروع لأشجار جافة يصل طولها إلى ستة أمتار، وكذلك فضلاتها من الغائط والبول".
وبالطبع كانت تجربة الرجلين شاقة، إذ اضطرا لالتماس طعامهما من الموارد المتوافرة بداخل الغابة فحسب، ويسعيان للبقاء على قيد الحياة في ظل ظروف مُنهكة. وفي هذا الإطار، يتذكر فرسنسكي أنه فقد نحو 10 كيلوغرامات من وزنه في غضون أسبوع واحد.
لكن رغم هذه المشاق، روى الرجل كيف غمرته البهجة حينما عثر في بقعة واحدة على أكثر من 150 نوعا من الصراصير، أي ما يفوق عدد الأنواع التي تعيش حاليا في أوروبا بأسرها من الحشرة ذاتها. ولم تكن هذه الصراصير شبيهة على الإطلاق بتلك المخلوقات القبيحة التي تختبئ حول منزل أيٍ منّا، إذ كانت تكتسي بألوان متنوعة.
وبدا واضحا أن العديد من هذه الحشرات إما يتألق ويبرق في الظلام، أو يستحيل تمييزه عن البيئة المحيطة به نظرا لقدرته على تمويه شكله عبر محاكاة هيئة أوراق الأشجار.
ومن المثير للدهشة أن نعلم أن غابة، تبدو أشبه بغابات الحكايات الخرافية مثل هذه، باتت معروضة للبيع حاليا في إطار قانون لـ"الإصلاح الزراعي"، يُشجَعُ السكان في إطاره على إزالة الأشجار، إذا ما أرادوا الحصول على حق ملكية قطعة من الأرض.
ويشرح فرسنسكي ما يحدث بالقول : "يأتي الناس ويقطعون مجموعة من الأشجار، ويحصلون على حق ملكية قطعة الأرض (التي كانت هذه الأشجار تنمو فيها). ومن ثم، وبعد خمس سنوات، كما هو منصوص عليه في إطار هذا القانون الجديد، يكون بوسعهم بيع قطع الأرض تلك، وهو ما يفعلونه".
وحتى الآن، لا يزال عدد السكان الذين باتوا يقطنون في داخل الغابة بالفعل محدودا. ويزعم ساحر المنطقة وطبيبها التقليدي أن ثمة "روحا شريرة" تقبع داخل بعض مناطق المحمية، وأن الغابة غاصة بالحشرات الناقلة للأمراض، وتهديدات محتملة أخرى.
ولا يزال شراء أراضي هذه المحمية، قطعة إثر أخرى، إحدى الاستراتيجيات التي يتبعها دعاة الحفاظ على البيئة لإنقاذ الغابة الموجودة فيها من التدمير. ويُباع الهكتار الواحد في هذه المنطقة بأقل من 500 دولار.
وقد اشترى غارسيا حتى الآن أكثر من 300 هكتار، رغم أنه ليس ثريا كما يقول فرسنسكي، الذي يستطرد بالقول إن هذا الناشط في مجال الحفاظ على البيئة صار يمتلك الآن ويحمي كذلك حيوانات وطيورا باتت مملوكة له مثل طائر "العقاب المخادع، وكذلك حيوان من فصيلة اليَغَور (النمر الأمريكي) وأكثر من 10 آلاف من أنواع الحيوانات المفصلية (التي تتمتع بهيكل عظمي قوي). كما أن لديه كذلك شلال ماء مملوكا له".
ومن بين الاستراتيجيات الأخرى التي يمكن اللجوء إليها للحفاظ على هذه المنطقة، بيع أراضيها إلى جامعة أو معهد، كي تتحول إلى منطقة بحثية تحظى بالحماية، أو استغلال مقومات الغابة الموجودة فيها لتنشيط حركة السياحة القادمة إليها.
ويقول فرسنسكي في هذا الشأن: "بالنسبة للزوار، يمثل السير على مقربة من طيور من فصيلة النسر الأمريكي الضخم، وبحذاء براكين مضطرمة، ممزوجا بالطابع البكر لهذه الغابة، نافذة على ماضٍ وجودي".
ويمضي الرجل قائلا إن الغابة نفسها تشكل "استعراضا كاملا للحياة على كوكب الأرض. فأنت تشعر حرفيا كما لو كنت تغوص في أعماق محيط مفعم بالحياة".
ومنذ عام 2010، تم إزالة الأشجار الموجودة على مساحة نحو 200 هكتار في المناطق القريبة من محمية نهر بيغال البيولوجية، وهي محطة أبحاث مدعومة من فرنسا تقع بداخل محمية سوماكو. كما أدى شق طريق يسمح بالدخول إلى المحمية والخروج منها في عام 1986 إلى تضرر عدة آلاف من الهكتارات الواقعة في مناطق أخرى من تلك المنطقة.
ويعتبر فرسنسكي أن مد هذا الطريق أمر مخزٍ "بالنظر إلى أن الإكوادور هي واحدة من أكثر دول العالم التي تتمتع بمناطق محمية (بيئيا) على أراضيها. ولكن ليس بوسع الأشجار السير بسرعة أكبر للنجاة بنفسها من المناشير والمناجل التي يؤازرها التشريع الحالي"، الذي يشجع السكان على إزالة تلك الأشجار لنيل حق امتلاك قطع من الأرض.
يمكنك قراءة الموضوع الأصلي على موقع BBC Travel.