اشترى الدكتور با محمد الأمين سيارة من لدن المرحوم محمد سالم ولد امخيطرات، وبعد مضي يوم على البيع، اتصل محمد سالم بالدكتور، وطلب منه أن يوقد أضواء السيارة للتأكد من عدم تعطلها، معللا الأمر بكونه لم يستخدمها ليلا خلال فترة ملكيته إياها.
يفتأ الدكتور با محمد الأمين يروي القصة، تعجبا من دقة المرحوم في معاملاته وأمانته وصدقه!! ولا يلفت مثل القصة هذه انتباه من عاشروا محمد سالم لوفرة مماثلتها في حياته اليومية.
إننا لا نجازف بصدق الوصف إذا قلنا إن محمد سالم كان مؤمنا حقا لبيان علامة الإيمان في سلوكه، فكان إذا حدث صدق، وإذا وعد أنجز، وإذا تولى الأمانة وفى.
في يوم من أيام عام 1921م ولد محمد سالم، لأبيه: أحمد الأمين ولد محمد فال ولد امخيطرات المتوفى سنة 1923م دفين "ابَّيْرْ" قرب التّاگِلالتْ، ولوالدته: فاطمة السالمه منت محمذن ولد أحمد ولد المختار، المتوفاة 1935م دفينة "احْسَيْ شَدَّادْ" قرب بُوتِلِمِيتْ.
ينتمي المرحوم إلى الجيل الثاني بعد جده محمد فال ولد امخيطرات المتوفى سنة 1316هـ 1899م دفين ابَّيْرْ.
اشتهر محمد فال بفتوته وظرافته وحكمته، ومكانته المكينة لدى أمراء الترارزة المعاصرين له، وقد عده الشيخ سيدي محمد ولد الشيخ سيديا من ظرفاء بني ديمان:
ومنهم أيضا سليل امخيطرات *** وهو الذي قد فاز بالمحبطات
لاقى كبيرا من أكابر البنوس *** حضر مرتين فتنة الفؤوس
وكم حكاية له ظـــــــــــــــريفه *** تنبئ أنه هو الخليفه
وشواهد حكمته وظرافته بينة في مواطن أخرى لذكره، كقول البراء ولد بگي - رحمه الله - في رثائه:
همت سحب الرضى متهللات *** على جدث الفتى ابن مخيطرات
وجاد من المسرة كل جود *** عليه بالعشي وبالغداة
ولا زالت من الرحمن رحمى *** بأنواع السرور إليه تاتي
فتى نــــــــــالت يداه ما مداه *** قواصر دونه أيدي البناة
وآثر عن سلوك السبل طرا *** سلوك مسالك السلف الهداة
وجاء من المكارم والمعالي *** بما من قبله لم يأت آت
وحاز من البلاغة وهو فرد *** مفاوز كل متلفة فلاة
وأحيى من بديعات المعاني *** مدارج كل مندرس مَوات
وماذون الفكاهة نال منه *** جنى لم تجنه أيدي الجناة
ونصر من يقسه بنصر غيرٍ *** كمن قاس الغطمطم بالأضاة
عاجل الأجل والد محمد سالم، فتوفي عنه ولما يصل الثالثة من العمر، لكن الأمّ لم ترحل عنه إلا بعد بلوغه نحو خمسة عشر عاما من عمره، يومها كان في سنته الأولى من التعليم الابتدائي.
تلقى نبأ وفاة والدته من خالها المرحوم محمد ولد أبن عبدم - الذي كان ترجمانا أيانها في بوتِلِمِيتْ - مشفعا النعي لمحمد سالم بأنه لن يفتقد رعاية أمه، ولا دفئ ذلك الحنان.
واصل محمد سالم في ظلال تلك الرعاية دراسته التي ابتدأها مع أضراب له من الطراز الأول، يقول المختار ولد داداه في مذكراته:
"إنها دفعة متميزة ظل أعضاؤها يدرسون معا حتى نالوا شهادة الدروس الابتدائية، ولم نلبث في المدرسة سوى خمس سنوات - بدل الست المعهودة - لأننا تجاوزنا السنة الأولى من المرحلة الابتدائية، وكنت ضمن المفرزة الأمامية صحبة: محمد ولد محمد عبد الله من ألاگ، ومحمد سالم ولد امخيطرات من المذرذرة، و وان إدريسا من ماتام الذى سيرتحل عنا قبل إكمال تلك المرحلة لمتابعة دراساته في سان لويس.
أما أعضاء الدفعة الآخرون فهم: محمد المختار الملقب معروف، وأحمد بن أعمر، وهما من ألاگ، ومحمد عبد الله ولد الحسن من المذرذرة، وسيدى أحمد الحبيب ولد الحسن من بوتلمبيت. وربما أكون قد نسيت واحدا أو اثنين من هذه الدفعة".
أذن الله أن لا يكون محمد سالم أقل شأنا من زملائه أولئك، فكان مبارك الطالع ميمونه في مرحلة دراسته، وكذا في سائر مراحل حياته المهنية التي استهلها ترجمانا ثم مدرسا في الشرق الموريتاني الذي أحبه وبادله أهله ذلك الحب، عمل بعد ذلك موظفا إداريا، قبل أن يبتعث نهاية خمسينيات القرن الماضي إلى فرنسا لدراسة الإدارة المالية مدة سنتين في المدرسة الإدارية الفرنسية لما وراء البحار.
عاد محمد سالم إلى وطنه مليء العيبة، موفور الحمل، ربيح البضاعة، ليساهم مع رواد التأسيس في وضع أسس وبناء الدولة المركزية.
كان - رحمه الله - الأب الشرعي لنصوص الأنظمة المالية الموريتانية التي أزاحت الدولة عن الاعتماد على الخزينة الفرنسية، كما كان الواضع لسياسات الصيد في موريتانيا.
تولى وزارات الداخلية والمالية والصيد، فقام بإجراءات تنظيمية للإدارة الإقليمة، وفي وزارة المالية كان المالي الأمين، وأما وزارة الصيد فلعل في شهادة الإداري بابه ولد سيدي عبد الله له غناء عن الاستفاضة في أمرها، فقد عمل معه في تلك الوزارة.
مهدت خبراته المهنية، وتراكم تجاربه، لنيله سامي الوظائف غب تقاعده، إذ كان محط نظر الخطوط الجوية الإفريقية التي عمل فيها موظفا ساميا في مقرها العام في آبيدجان عاصمة ساحل العاج.
عاد إلى الوطن ليجد رجلا آخر من صنفه من الناس في انتظار شراكته، ألا وهو المرحوم سيدي محمد ولد العباس، حيث عمل مستشارا معه خلال تولي سيد محمد لرئاسة هيئة اتحاد أرباب العمل الموريتاني.
كل هذه الوظائف السامية لم تَرجع على محمد سالم إلا بمنزل في نواكشوط، كان مثابة للضيف والمحتاج وابن السبيل من قومه وغيرهم، فكان - رحمه الله - يبذل الجهد في إعانة العاني، وتوظيف العاطل، وحمل الراجل...
أراد جيرة بيته في الحي الذي كان يسكن من نواكشوط بناء مسجد جامع، فجاء رأيهم على أن يكون محمد سالم القيم على الأمر لأمانته، وحبه السعي في مسالك الخير.
مستهل تسعينيات القرن الماضي لم يعد لمحمد سالم وطر في العيش في المدينة التي بدأت تزداد ساكنة، وازدحاما في كثير من الشؤون، فشد رحال الأوبة إلى حيث نيطت عليه التمائم، وأول أرض مس جلده ترابها.
ألقى العصا واستقر به النوى في قريته الوادعة "التَاگِلالتْ" ليعانق هدوء القرية صفاء الرجل، فيرسم الزمن لوحة جميلة بألوان جمال التاريخ وصقالة ذلك الإنسان!
كان في ذلك الوقت حديث عهد ببناء المسجد، فكان المسجد الملاصق لبيته في التَاگلالت على سلم اهتماماته، فقام على أشياء من أموره.
في داره تلك في التاگلالت كانت تعقد - أحيانا - اجتماعات جماعة الحل والعقد في قومه، كما كانت أيضا منزلا للكثير من علية الأضياف.
وتقام في الدار كذلك جلسات وسهرات أدبية لعلماء وظرفاء وأدباء يود مجالسهم لو أقام فيها ما قام النهار الليل، فمن أولئك على سبيل المثال: أحمدو ولد اباه، والحسن ولد ابّوبا، - رحمهما الله - والدكتور محمد المختار ولد اباه، وأحمدو سالم ولد الداهي - حفظهما الله -... وغيرهم كثير
كانت في الدار مكتبة تحوي عديد المصنفات، ومختلف العناوين أذكر أن أول نسخة رأيتها من تفسير "التحرير والتنوير لابن عاشور" كانت من مقتنيات تلك المكتبة، رأيتها في التسعينيات عند شخص أخذها عارية من المرحوم محمد سالم.
لا شيء أهم من الوقت عند المرحوم، فما كان يطيل السهر، ولا يكثر الحديث في غير مفيد في الدنيا أو الآخرة.
لم يترك للفراغ منفذا إليه، فكما كان قلبه معلقا بذلك المسجد، كانت لديه "جمعية الزرع والضرع" التي أضحت مزرعته شمال القرية بيانا على صدق نيته في ذلك العمل.
كانت مزرعة غنّاء يتعاهدها ضحى، يرافقه في الغالب رجال من أترابه، وفيها قام بتجربة لزرع شجر القتاد، محاولة لإعادة إنتاج الصمغ العربي، ولعلي سمعت ذات حديث حول تلك المزرعة أنه قام بإعداد دراسة قيمة ومستوفاة حول تلك المادة.
كان - رحمه الله - صقيل القلب والقالب، ينبئك منظره عن طيب طويته، ويدلك حديثه على ميمون نقيبته، مارس الصدق والأمانة حتى صار مضرب المثل لهما، وما ماء العود إلا من حيث يعتصر، فتلك محمدة رضعها من جده محمد فال الذي يقول فيه البراء بن بگي:
صدوق لا يحرف في حديث *** وفيٌّ بالعهود وبالعداة
لو كان المختار بن حامد - رحمه الله - يعيش في دنيا اليوم، لأجاد في رثاء محمد سالم، كما فعل ذات وفاة ابنه الأكبر المرحوم أحمد، حيث يقول المختار:
عليك سلامُ الله يا درة الــعقد *** ويا وردة البستان يا زهرة الـــورد
وجلدةَ بيْنِ العينِ والأنفِ بيننا *** وأحمدَنَا سعيا إلى المجد والحمد
وروحٌ وريــحان وعــفو ورحمة *** ومثوى مع الأبرار في جنة الــخلد
وحفظ وتـــعمير لمن تــنتمي لهم *** ومن نجلوك من زيود ومن هــــند
فصبرا بني ديمان من كان سالما *** وهي بهاء من بني ذائه الـــجد
فذو الطول خير منكم لهديلكم *** وطعم ثواب الصبر خير من الـشهد
ولا باس إن نحزن وتدمع عيوننا *** إذا نحن جنبنا التجاوز للــحد
فذاك الفتى في القلب يبقى وفي الحشا *** وفي العظم أيضا والعروق وفي الجلد
ولــــكن للإيــــمان بالله قــــــوة *** تؤول إلى التفويض للرب بالـعبد
رحم الله محمد سالم ولد امخيطرات، وأدخله فسيج جناته، ولا زالت شآبيب وهواطل الرحمات تتنزل على روضته الطاهرة.
أحمدو بزيد