وجدت نفسي قبل عشرين سنة ـ أو ربما أكثر أو أقل ـ فذاكرتي ضعيفة، مرمية هنا، عند "كرفور تنسويلم" بعاصمة موريتانيا، التي ساقتني إليها الأقدار سنوات بعد خروجي من المصنع في الواقع لست نادمة على وجودي هنا، فالحياة قسمة ونصيب، وإن جرت أدمعي، وأنا أرى زميلاتي معززات مكرمات محترمات، في عواصم جميلة مبنية متحضرة، وعلى طرق أنيقة مشجرة مضاءة مرتفعة متشابكة، يسير عليها أناس متحضرون يسيرهم القانون والشعور الوطني قبل أن تسيرهم "إشارة" أو"سلطة" من أي نوع.
لم أندب حظي العاثر، بل وقفت هنا حيث زرعوني في مكان لم أعرف هل هو ملتقى طرق، أم مفترق طرق، أم مجرد ربوة مطلة على فضاء صحراوي كانت به حياة صاخبة ذات تاريخ.
رمال، وحجارة وحمير، وهياكل سيارات، ورجال ونساء جيء بهم وبهن من البدو، يسوقون صناديق كانت ذات يوم سيارات، وكأنهم يمتطون حميرا إلى بئر صحراوية بعيدة ، وغبار وضجيج، وشرطيون كسالى، أعيتهم الحيلة فالتحقوا بالفوضى بعد عجزهم عن كبح جماحها.
تعلمت أصلا، ولذلك خلقت أيضا، أن أبعث إشارة خضراء لفتح الطريق، وحمراء للتوقف، وصفراء للتحري والحذر والانتباه، ولا أتقن عملا آخر، وليس مطلوبا منى، ولا علاقة لي بأي شيء سوى ضبط المرور بإشاراتي الثلاثية تلك.
عشت ذكريات مريرة في موقعي هذا، منها أنني تعرضت للكسر مرات عديدة، أما عمليات الدهس والخلع (غير الشرعي) والرمي، فلا يعلم إلا الله عدد ما تعرضت له منها مجتمعة ومنفردة.
أحسست كثيرا بالمهانة والعار، وأنا أراهم لا يحترمونني، ولا يلقون لي بالا، فلا تستوقفهم عيني الحمراء سهرا على سلامتهم، ولا الخضراء طلبا لتنظيمهم، ولا الصفراء حرصا على انضباطهم.
ومن الجراح الغائرة في قلبي أنني أتعرض للتعطل باستمرار، ليس لانقطاع الكهرباء، فقد تعودت عليه، بل أصبحت عودة تياره تشعرني بآلام في المفاصل، والأطراف السفلية، والرأس، ولكن لأنه لا صيانة ولا رعاية لنا معاشر"الإشارات"، ماتت معظم صديقاتي دهسا قرب الإذاعة والتلفزة، ومركز الإستطباب الوطني، و"البانات" البيضاء والزرقاء، و"سيتى اسمار"، بعضهن فارقن الحياة دهسا، أو صعقا، أو سكتة كهربائية، والبعض مات بالربو، والحساسية، والضغط الناتج عن السلوك البدوي المشين للسائقين وفوضوية المدينة.
ولن أنسى صديقة لي فى ملتقى طرق أوعلى الأصح مهوى طرق فى "سيزيم" قريبا من "مرصت المغرب" أصيبت بالجنون، لأنها ارتبكت، فأعطت إشارة خضراء توقف الجميع، وأعطت الحمراء فانطلق، الجميع وأعطت الصفراء فاختلط الجميع، فكان حالها كحال إمامكم الذي سجد ف"حنحنتم" له ثم وقف ف"حنحنتم" له ثم عاد للجلوس ف"حنحنتم" له فما كان منه إلا أن "تمرغ" أمامكم حيرة وارتباكا، لا أنسى كيف فقدت ذاكرتها، وأثبتت لمدة شهرين الإشارة الحمراء، عاجزة عن إعطاء الإشارتين المتبقيتين، إحباطا وجنونا وإحساسا بالخرف.
أعيش هنا لا أحد يحترمني، وكثيرا ما سألت نفسي:
" ما الذي أفعله هنا؟!!
متى كانت عربات الحمير وملاكها وحميرها بحاجة لخدماتي؟!!
ما الذي يفعله بدو تلهب شياطين السرعة ظهورهم بخدماتي؟!!
إنني "أبكى ولا أحد يرى دمعاتي" ..!!
يتملكني إحساس بأنني على ربوة في "المجابات الكبرى"، ولست على ملتقى طرق رئيسي في عاصمة دولة متحضرة، ولكن ليس لي من الأمر شيء، فالذين ركبوني هنا تناسوني، ولا أحد يهمه أمري، فهؤلاء البدو لا يريدون التوقف، ولا تخفيف السرعة، ولا يتلقون الأوامر لا من قانون ولا سلطة، بل من أنفسهم الأمارة بكل ما يخالف السلوك المدني المعاصر، وإذا كانوا لا يعبأون بشرطة المرور، وأمن الطرق، فهل يمكن أن أنتظر منهم ـ وأنا الآلة الخرساء الجامدة الضعيفة ـ أن يلقوا بالا لإشاراتي، حتى لكأنه ليس فيهم لبيب تكفيه "الإشارة"
وأنا ـ مع الأسف ـ أصبحت مثل مصابيح الطريق وعلاماتها، وشرطة المرور، وأمن الطرق، جزء من الفوضى، وهي فوضى لا فكاك منها لا تغيرها كل السنوات، ولا كل دعوات التمدن ومزاعم الرقي والتحضر و"التقونن" !!
لا فرق بيني وبين خشبة بلهاء مرمية برعونة في زقاق أغبر فى "مرجع" بئر من آبار "أهل لخيام" أو"عقلهم" ..!!
عندما أنظر أمامي أعرف أنه لا دور لي، فأبكى بدموع ارتدادية، هذه التي تمر من أمامي وخلفي وفوقي ومن بين رجلي، ليست سيارات، هذه صناديق حديدية صدئة، تسير على غير هدى كقطيع من "وحيد القرن" حركه حنينه المتوحش الأرعن للبحث عن غابة مطيرة بعيدة.
لا أمان لهذه الصناديق ولا فيها ،لا مطافئ للحريق، لا أحزمة أمان، لا أضواء، لا مكابح لا دعامات لامنبهات لا طرق سلامة من أي نوع ، أما الشوارع التي أراقبها فهي خليط من الحجارة والرمل و"الروث"، والغبار حيث لا اتجاه يحكمها، ولا معالم تحددها، ولا علامات تميزها ..!!
صندوق يتوقف عندما يريد ذلك، راكبه لا يهتم لأمر الطريق والزحام، لا يهمه أن تكون خلفه جنازة، أو سيارة إطفاء، أو إسعاف، أو وفد أممي من خبراء نزع الألغام..!!
صندوق يدهس الذي أمامه، فيدهسه الذي خلفه، وكأن الأمر يتعلق بقاعة ألعاب يتم التحكم فيها.
لقد تعبت وشعرت دائما بمرض القلب، والغثيان، والحموضة، و بى حاجة مستمرة لأن أتقيأ وأتبول، بل أحيانا أفكر في الانتحار، وأنا التي لم يبق مكان في جسدي إلا وفيه ضربة باص، أو طعنة عربة حمار، أو جرح سببته سيارة معتمة لشخص مخمور يلعب بسيارته وسط الزحام.!!
لا أدرى إن كان في عمري بقية، لكنني يقينا أعيش بطالة مقنعة، اختلطت علي الأضواء والإشارات، ونالت منى صروف الدهر، وأحلم بأن أعود إلى بلدي الأصلي، لأعيش بهدوء لن يكتمل إلا بحج بيت الله، والتفرغ للعبادة، أريد أن أعود لنفسي، وأكتشف أنى فعلا كنت ذات شباب غض "إشارة مرور" ولست "عمودا" باهتا هزيلا، منسيا مطمورا في رمال قرية ريفية، يحاصرها زحف الرمال، يمر به البدو كل حين هذا يمسح عليه وبه وفوقه كل أشيائه التي يريد "مسحها"، وهذا يهزه بعنف دون أي هدف واضح، وهذا يحاول اقتلاعه بجنون، وهذا يفكر في اتخاذه مسواكا، أو عصا يهش بها على غنمه، وله فيها مآرب أخرى..!!
سامحوني ليست هذه سخرية منكم أيها الموريتانيون الرائعون، ولا من بلدكم الجميل، ولا من بناكم التحتية، إنه مجرد عتاب من "إشارة مرور" أصبحت واحدة منكم وشعرت بأنه عليها أن تعاتبكم عتاب الأحبة لأنكم قصرتم فى حقها كثيرا، وإن رأيتم أنها سخرية فإنني أبادر بالاعتذار لكم فأنا والله أحبكم أحبكم أحبكم وأحييكم.
( إن أكن قد كويت لحم بلادى
فمن الكي قد يجيء الشفاء)