إسهاما في هذا الجدل الدائر حول المأمورية الثالثة ،أود أن أوضح بالإشارة ما يدركه البعض لكنه لا يريده ..وإن سألوا لماذا الإشارة وأنت تريد التوضيح ، قلت: إن الإشارة بمعني التلميح ، قد تكون هي الأنسب في بعض الشأن السياسي ، وإن الإشارة بمعني طلب العون (المشورة) هي صميم العمل السياسي الناجح ، وربما كانت مركزية هذا المفهوم في الحقل السياسي هي ما دفع الإمام الحضرمي ـ رحمه الله ـ إلي عنونة كتابه في السياسة ب (الإشارة في تدبير الإمارة) والذي لا أقول بأنه يضاهي كتاب الأمير لميكيافيلي وحسب، بل وأكثر أهمية منه بالنسبة لمجتمعاتنا ...وبناء علي مفهوم الإشارة في كلي المعنيين أقول بأنه :
غني عن البيان القول :إن فخامة رئيس الجمهورية السيد محمد ولد عبد العزيز ، قد حقق للشعب الموريتاني في السبع الماضية ، مالم يتحقق في موريتانيا طيلة خمسين سنة مرت علي استقلالها ، فتلك الإنجازات العملاقة في مختلف المجالات ، تحدث عن نفسها ، وتحدث عن مدي مصداقية حكم الرجل للبلاد ، وقد شهد الشعب الموريتاني علي ذلك مرتين : المرة الأولي لما انتخبه بنسبة تزيد علي 52 %في يوليو 2009 جزاءً علي ما بذل حينذاك من جهد لا يستهان به لتطبيق وتنفيذ برنامجه التنموي المميز، وما أظهر من صدق النية والوفاء بالعهود ، والمرة الثانية في يونيو 2014 حيث زكاه الشعب بنسبة تزيد علي 81 % ، جزاءً لما شاهد الشعب الموريتاني فيه مما كان قد توسمه : الصدق ،والوفاء بالعهود ، حيث أنجز ما وعدبه في الإنتخابات الأولي ، ولذلك أعطاه الشعب فرصة ثانية لعله يبذل المزيد من الجهد ، وبالفعل استمر ذلك الجهد وهاهي الآن إنجازات عملاقة مابين المبدوء في تنفيذه ، والقريب انتهاء الأشغال فيه ، وماتم بالفعل وبدأت مرحلة الإستفادة منه ،وهناك ماهو قيد الدراسة .
ولاشك أن الداخل إلي موريتانيا ،الآن لن يجد بدا من القول إنها بدأت تخطو بوتيرة متسارعة نحو التقدم والازدهار ، أما المتابع لها أو السائل عنها في الخارج ، لن ينتظر كثيرا ليجد إجابة شافية لما يدور في خلده عن دور موريتانيا في السياسة الدولية ، حيث سيجد موريتانيا حاضرة بامتياز في كل المؤتمرات الدولية ، وسيجد أنها عضوا فاعلا في كثير من المنظمات الدولية والإقليمية ، وأنها ترأست الكثير منها في فترة الرئيس الحالي ولأول مرة في تاريخها ، وسيجد أن موريتانيا كانت في الفترة الأخيرة حاضرة وذات دور بارز في الوساطات ، وفض النزاعات الإقليمية والدولية .
لاشك أن موريتانيا أصبحت اليوم دولة ذات مصداقية يحسب لها حساب كبير في السياسة الدولية : أصبحت ذات قيمة كبيرة يفهمها المواطن المواطن العادي ،ويفخر بها ،ولم يكن ذلك الحضور المتميز لموريتانيا بين دول العالم ،وليد الصدفة ،أونتيجة قوة خارقة غير مدركة ، وإنما جاء نتيجة لإرادة وسياسة الرئيس الموريتاني الحالي السيد محمد ولد عبد العزيز ، وجهود المخلصين والأوفياء له ،ولهذا فإنه يمكننا القول إن مصلحة الشعب الموريتاني في هذه الحقبة من الزمن هي في الرئيس محمد ولد عبد العزيز ، لكن المأمورية الثالثة ، التي يحتاجها الشعب الموريتاني من محمد ولد عبد العزيز ، هي مدار جدل حاد يدور الآن داخل الأوساط السياسية ، لأنها تحتاج إلي تعديل الدستور وتغيير المادة المتعلقة بتحديد المأموريات لتنص علي ثلاث مأموريات أو أربعة ، حينها يستطيع الرئيس الحالي أن يترشح لمأمورية ثالثة ، وبالتأكيد سيفوز بها ، لأن تلك هي إرادة الشعب الموريتاني .
لكن المعارضة تقف بالمرصاد لمسألة تعديل الدستور ، وتريد الرجل أن يرحل ، ويترك السلطة بقوة القانون بعد أن عجزت عن ترحيله بالقوة الخشنة (الثورة) أيام الصخب الذي رافق ما سمي بالربيع العربي !!.
يمكن للسيد الرئيس محمد ولد عبد العزيز أن يستجيب لنداء خفي أو علني للشعب الموريتاني ، ويتم تعديل الدستور ليسمح له بمأمورية أخري ، لكن إذا كان ذلك من مصلحة الشعب الموريتاني بالتأكيد فهل هو من مصلحة شخص الرئيس محمد ولد عبد العزيز ؟. إن الإجابة علي هذا السؤال تحتاج إلي تفكير عميق جدا .ليس بقدر التفكير السطحي الذي يعبر عنه معارضو النظام ،والذي لا يتجاوز كون المأمورية الثالثة تعني المزيد من التوتر وعدم القبول بهذا النظام وتعني استمرار الصراع ، وأن تخلي الرئيس عنها يعني نجاته من الملاحقة القانونية وخلو الطريق أمامهم للوصول إلي السلطة.
إن التفكير في مدي أهمية المأمورية الثالثة ،أو عدمه بالنسبة للرئيس محمد ولد عبد العزيز ، مسألة واردة جدا في اللحظة الراهنة.
فمن السهل أن نقول ـ بناء علي ما سبق ـ إن هذه المأمورية مفيدة للرئيس مدام أنها تلبي رغبة عارمة للشعب الموريتاني ، وهو الرجل الذي يحق له أن يفخر بخدمة هذا الشعب ، فإن أضاف المزيد سيكون ذلك مفيدا وممتعا بالنسبة له ، لكن من يدري لعل تخليه عن السلطة بعد انتهاء مأموريته الثانية يكون أكثر أهمية بالنسبة له ،حتى يفخر به الشعب ثانية ؟ .
إن التفكير في هذه المسألة قد يكون أكثر أهمية من استغراق التفكير في كيفية تمرير مأمورية ثالثة ، فصحيح أن المأموريتان خطأ دستوري يتعين تصحيحه ـ كما عبرت عن ذلك في مقال سابق ـ وصحيح أن المأمورية الثالثة لا تحتاج إلي كبير تأمل ، ولا إلي جهد كبير، وهي ـ كما أسلفنا ضرورية للشعب الموريتاني ، لكن الأكثر من ذلك أهمية بالنسبة للرئيس محمد ولد عبد العزيز ، أن ينهي سريعا كل المشاريع العملاقة قيد الإنجاز قبل انتهاء هذه المأمورية ،ويقدم للدراسة مشاريع أخري بنفس القدر من الأهمية الإستراتيجية، ويستمر في العمل من أجل الدخول في حوار شامل ، فإن حصل ترتبت عنه بالضرورة انتخابات سابقة لأونها ، وينبغي أن يتضمن الحوار تعديل الدستور لزيادة المأموريات ، ولو في مرحلة الرئيس الذي سيخلف ولد عبد العزيز ،ولزيادة سن القصوي للرئيس ، وإن لم يتم الحوار بالطريقة المطلوبة ، يستمر الرئيس حتى ينهي مأموريته الثانية بالكامل ، دون أن يسعي إلي تعديل الدستور ،ويعلن عدم نيته الترشح في الانتخابات القادمة احتراما للدستور، وحينها سيكسب شخص الرئيس المصداقية الكاملة في داخل البلاد وخارجها ،ويعيد إلي الثقة في نفسه لمن تزعزعت عنده لسوء فهم بعض الأوضاع ... ويدخل في مرحلة أشبه ما تكون باستراحة محارب ، يتهيأ بعدها لخوض غمار معركة انتخابية جديدة بعد خمس سنوات ، ليفوز بمأمورية جديدة قابلة للتجديد أكثر من مرتين إن سمح العمر بذلك .
في هذا سيكون التفكير أكثر عمقا وأجدي وأنفع لتجديد وعودة الثقة إلي الرئيس كما كانت أول أيامه في السلطة ، وبالطبع لن نستطيع أن نخمن ما سيحدث ، ولا أن نثق بما يظهر للكثير من الناس ، وهو أن الرئيس أي رئيس ـ مهما كان ـ إن تخلي عن السلطة لن يستطيع العودة إليها !! .
أظن أنه علي الرئيس الموريتاني أن يطلب الآن بكل صدق استشارة كل الأوفياء، في مسألة ترك السلطة ...والاستغراق بالتفكير في تلك المسألة ، حتي إذا اتضحت أهمية تركه للسلطة ،كان القرار جماعيا ، ويرشح الحزب شخصا آخر ، وإن لم يشيروا عليه بضرورة التنحي فعلي الرئيس أن يستمر في المحافظة علي خصوصيته التي حببته إلي كثير من الناس وأن يظل شامخ الرأس مرفوع الهامة ، قويا ، لا يخضع للضغوط الكثيرة ،والتي ستكون أكثر إذا ما صمم العزم علي مأمورية ثالثة،رغم جهود المعارضة ، والموقف المحتمل لبعض دول ، وحتى بعض عامة الناس في داخل البلاد ، فقد يشترط الكثيرون لدعم الرئيس أمورا قد تخل بركائز مشروعه السياسي إن هو قبلها . فعلي سبيل المثال: التساهل مع سجناء الخزينة العامة، وعدم تغريمهم ما نهبوا من المال العام ،سيكون هو أول مطلب يقدم إلي الرئيس في صيغة شرط صريح أو غير مصرح به .
لن يتأخر طلب الإفراج عنهم كشرط لدعمه ،فإن قبل الرئيس الشرط يكون قد أخل بأهم مرتكزات مشروعه السياسي (الحرب علي الفساد ) ،وتساهل القضاء معهم ، بإصداره أحكاما مخففة ،هو قبول لذلك الطلب بوجه غير علني، وإن لم يقبل يكون الوضع محرجا ،ويحتاج إلي شجاعة مثل شجاعته أيام انتخابات 2009 .ولا يعدم الرجل حقيقة تلك الشجاعة ،لكنها قد تكون أجمل في التخلي عن السلطة وعقد العزم علي العودة إليها مجددا .
فما أجمل أن يعود الرئيس مجددا إلي السلطة بعد تركها ، سواء بالحال أو بالحيلة .ففي ذلك :جمال ،وقوة ، وإرادة حقيقية نشوتها عنده وعندنا، لن تعدلها نشوة الفوز في ظل صراع أصبح له بعض المصداقية .. وصخب قد يجد بعض الآذان الصاغية.وإن كانت مصلحة الشعب ستظل حاضرة رغم كل ذلك ، فإن مصلحة الرئيس في ترك السلطة آكد لتجديد ذاته ،وتأكيد مصداقيتها من جديد .
الكاتب سيد الأمين ولد باب