إن حركة الحقب وتطور القواعد التي تحكم وتنظم المجتمعات قادت الي قيام الدولة الحديثة كمفهوم ،وهذه الكلمة في جوهرها المثالي قادت الي "دولة القانون" إذ لا يمكن قيام المجتمع المسالم -والحالة هذه- بدون آلية تكبح جماح التعسف الذي يمكن أن يظهر هنا أو هناك،وهو ما جنح إليه مبتدعو مبدأ الفصل بين السلطات بدأ ب"جان لوك "وحتي صياغة النظرية من طرف "مونتيسكيو"،الذي ارسي فرضية توازن السلطات حتي لا تمعن احداها في التعسف ويكون بإمكان كل سلطة توقيف الاخري،ليصل الي التقسيم الثلاثي للسلطات المعروف.
ولم يشذ نظامنا عن هذا المبدأ إذ نص الدستور في المادة 89 منه علي السلطة القضائية كسلطة مستقلة ورئيس الجمهورية هو الضامن لاستقلالية القضاء.
وتحظي مكانة القضاء في المجتمع الموريتاني بأهميةكبري، فمنذو حقب بعيدة ظل للقاضي مكانته ودوره المحوري في المجتمع ،وقد حافظت الدولة الوليدة علي تعضيد تلك القداسة وتكريسها.
وحيث ان نظرة فاحصة لواقع استقلال ومكانة هذه السلطة وارتباطها بالسلطتين يجعلنا نصل الي نتيجة مؤداها مرونة هذه الاستقلالية او ضعفها علي الراجح.
وهو ما يمكن ملاحظته من خلال العلاقة بالسلطة النتفيذية ،اذ تؤدي حالات التعارض الواضح بين السلطات،وصراع القوي بينها وعدم الثقة في بعض الاحيان إلي بروز تلك التبعية.
وحيث ان طرق مختلف زوايا هذا الضعف، يتحتم طرق عوائق تطور العدالة الشيء الذي ينبني علي أبعاد قانونية واقتصادية وسياسية واجتماعية.
وقد ظل هذا الموضوع محورا لعديد الورشات والمبادرات ،وان كانت للاسف غالبا ما ترتبط بظرف مرحلي تزول مع زواله،مما يبطل مفعولها كمساهمة في تعزيز فاعلية ومصداقية المؤسسة القضائية.
إن العدالة الحقيقية تستلزم أولا الثقة في السلطة القضائية وبالتالي ضمان تفعيل دور القضاء واستقلاله عن باقي المؤسسات قائما بدوره في البناء اذ بدون ذلك من المستحيل تصور انسجام فعلي بين مختلف السلطات،وانعدام الاستقرار الإجتماعي.
ومع تشعب معوقات هذا التطور وتشابهها بين مختلف دول العالم الثالث تقريبا ،يمكن ان نخص مشهدنا الوطني بخصوصيات من أهمها:النظرإلي آليات قيام دولة القانون ومكانيزماتها الدولية باعتبارها امرا كماليا،لم نصل لمرحلة اقراره، ووضع الجهاز السياسي اليد علي الجهاز القضائي،ينضاف لذلك عبء العادات والتقاليد، ونقص الموارد المتوفرة للمحاكم.
ولعل من الوارد الاشارة الي ان الاستقلالية تحتم فرض نوع من الاحترام في العلاقةمع باقي السلطات وهنا يجدر التنبيه ان العلاقة بين هذه السلطة والسلطة التنفيذية علاقة غير متوازنة بالنظر الي السلطات الممنوحة للأخيرة، من خلال الخضوع الهرمي لها،هذه الهرمية التي لا يجب ان تؤثر علي علي الاستقلالية في اتخاذ القرار،اذ هو مبدأ دستوري لا يرجع فيه القاضي إلا لقناعته وضميره.
وهنا فان القاضي الجالس الذي لا يخضع لمبدأ الهرمية ،لا يسلم من بعض العوائق المرتبطة خاصة فيما يتعلق بالتحويلات وكذا ضبط الجلسات وتقسيم الاعمال وعليه يكون القاضي غير سالم من الضغوط و العقوبات من طرف رؤساءه الهرميين،إذا كانت علاقات العمل لا تسير في مناخ الرضا والتفاهم.
ولا يمكن ان نهمل دور جهة الوصاية في صيرورة المسار المهني للقاضي والاقتراحات والتعيينات و التقدمات في وظائف القضاء الجالس.
ينضاف لذلك غل يد القاضي فيما يتعلق بالقدرة علي إبداع وخلق القانون ،الذي يجسده من خلال الاجتهاد في تفسير النص القانوني،بل توجد نصوص تأمر القاضي وتمنعه من التصرف،وهو ما يجعل يده مغلولة،وبالتالي تحد من دوره المبدع في خلق القانون، وكذا عدم جواز التطرق للدستورية من عدمها التي هي من اختصاص المجلس الدستو ي وفي القوانين النظامية حصرا، فلا يمكن والحالة هذه للسلطة القضائية ان تتعرض او تقدر شرعية اي مرسوم صادر عن السلطة التنفيذية.
ما أشرنا إليه آنفا ينطبق أيضا علي مبدأ عدم امكانية تحويل القضاة الجالسين،اذ يظهر ان هذه الضمانة لم ينص عليها النظام الاساسي الوطني كما نص عليها في النظم الاساسية المقارنة حيث ضمنت في اغلبها كمبدأ دستوري ، اذ يتحتم اعطاءها تلك القداسة نن خلال النص عليها كمبدأ دستوري،كما ان المادة 8 من النظام الاساسي نصت علي انه لا يمكن تحويل القضاة الجالسين الا لحالة الضرورة ،وهو ما تجسد في التطبيق العملي لهذه "الضرورة" في تحويلات مزاجية لا تخضع للمعني الظاهري أعلاه.
وهنا يجدر التساؤل عن مدى إمكانية ضمان الإستقلالية حين يكون النص الآمر نفسه عرضة لمد يد السلطة التنفيذية.
وهو تساؤل لا يجد الإجابة عليه إلا في الدستور نفسه في المادة 89 الجاعلة من رئيس الجمهورية بصفته قاضي القضاة ضامن هذه الاستقلالية،الساهر علي سير السلطات بانتظام واضطراد.
ويجدر الاشارة ايضا الي ان قوانينا يتجاذبها مصدران للتشريع هما الشريعة والقانون الوضعي،مما يشكل في الغالب عقبات امام أغلب القضاة لعدم التساوي في المعرفة و الخبرة في ذينك المصدرين.
وخلاصة القول أنه ومن اجل التغلب علي هذه العوائق التي تواجه المؤسسة القضائية وتطويرها وتعزيز دورها، ينبغي توفير مجموعة من الضمانات التي من شأنها ان تعزز وتحمي دورها منها ما هو هيكلي يعمل علي تفعيل النظام الأساسي وتحسينه وتضمينه الاصلاحات الكفيلة بتوفير الاستقلالية ويمنع من كافة أشكال التبعية، وإشاعة الشفافية والمصداقية كأهم لبنتين لذلك.
ولا يمكن اهمال ضرورة مراعاة المعايير الدولية المرعية في نظام العدالة والولوج للمحاكمة العادلة،التي اصبحت شبه متفق عليها دوليا كحق من الحقوق الاساسية في اطار دولة القانون.
وبشكل عام يمكن القول إن هذه المعايير تهدف الي تكريس الاستقلالية والحياد ، الشيء الذي يستلزم ضمانات سخصية للقضاة متعلقة بالمسار المهني، والتعيين والترقية والتحويل وأيضا التأديب والتعويضات المادية ،أو ما يتعلق بالتكوين المستمر وأخلاقيات المهنة، ومسؤوليات القضاة وأخطائهم أثناء تأدية مهامهم دون إهمال التأثيرات غير المباشرة للضمانات الاجرائية وهي القاعدة العامة التي تضمنها معظم المبادئ الاساسية المتعلقة بالقضاء او العدالة ،نظرا لاهميتها الكبري في تطوير عدالة حقيقية مستقلة تكون مزدهرة زاهية في نظر المتقاضين.