إن شئت أن تعرف ما بيننا وبين صلاح الأمر، فانظر كيف نختلف، فيكون وُكْد بعضنا أن يمحو بعضا، ويجعلَ شرط بقائه إفناءَه، ويشتغلَ بأكله عما ينبغي أن يشتغل بإنجازه، على ما قد يحبِّر لسانه ويراعه من بديع القول في أدب الخلاف. كان الإخوان المسلمون أكثر الأحزاب والجماعات في هذا العصر حديثا عن أدب الخلاف، وأكثرَها تَجَمُّلا بترداد قولة المراغي: "نعمل فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه"، منذ اصطنعها حسن البنا -رحمه الله- مذهبا في الخلاف، بيد أن المعروف من خلافهم بعْدَه كان على خلافها: فما خالفهم أحد كان منهم إلا جعلوا غايتَهم محوَه، وإظهار أنه إنما كان بهم، وليس في وسعه أن يكون بدونهم، ولم يرقبوا فيه إلاًّ ولا ذمة، ونسوا كل يد كانت له عليهم. ومن آخِرِ ذلك ما كان بينهم وبين عبد المنعم أبو الفتوح، لمَّا ترشَّح للرياسة، فقد اتهموه في دينه، ورموه بالتحول عن فكره، وبذلوا المال لمنافسه، حمدين صباحي رجاءَ أن يخرجوه من الشوط الثاني، ليكون بين محمد مرسي ومن هو دونه شعبيةً من المتنافسين، كحمدين، وأحمد شفيق؛ إذ قد علموا أن عبد المنعم لو نافس محمد مرسي فاز عليه؛ لما له من شعبية في المستنيرين من المصريين. وكانوا يقولون لعامة الإخوان -لينفِّروهم منه- إنه إذا فاز، منع الحجاب، وأغلق المساجد، وحلَّ الجماعة، ويقولون لخاصتهم إنه سيصنع بها ما صنع رجب طيب أردغان بجماعة نجم الدين أربكان. كأنَّ ما صنع رجب طيب لم يكن خيرا لتركية من الإبقاء على جماعة، بلغت الحدَّ، ولم يبق في قوسها منزع، وكأن ما صنع لتركية شيء غير الذي كان يريد لها نجم الدين! ولا غرو أن يكون ذلك رأيَ الإخوان، فقد كَلِفوا بالتنظيم كلَفًا، حجب عنهم أنه وسيلة، وأن الغاية قد تُتَبلَّغ بغيره، هذا إلى ما يعلم بعض رؤوسهم من أن التنظيم إذا انتهى، انتهت معه صلاحيتهم؛ إذ ليس لهم ما يتبوءون به من الحياة العامة ما كان يبوئهم التنظيم، في العمل السري. وما كانوا يخشون من عبد المنعم أبو الفتوح هو ما يزعمون أنهم يتغيون، ومع ذلك رغبوا عنه، واشتغلوا بكيده؛ مخافةَ أن يأتي من غيرِ بابهم المقدَّس دون الأبواب، ولم يكن لما يُلَقِّنون ويُلقَّنُون من أدب الخلاف أثر في خلافهم السياسي، وإنما جعَل السياسة "الإسلامية" كالسياسة غير الإسلامية، في توسلها بما تتوسل به، وإلباسها مَنْ تخالف الثوبَ الذي تسوِّغ به ما تريد به، ويُظْهِره بالصورة التي تحبُّ أن تَصْطَنع له، وجعَل أظهر شيء في السياسة "الإسلامية" اليوم هو التخالف، على ما بين المسلمين من أسباب التوافق. سرِّح خاطرك في الوطن العربي: فلن تجد فيه بلدا، بين أحزابه -حتى الإسلامية - ما لا يمكن تعديه من حدود الله، ولا بلدا، تأمن أن تنام عن أهله شعبا، فتستيقظ عليهم شعوبا، يضرب بعضها رقاب بعض، ولا أمل في صلاح ما بينها. وسرِّح خاطرك في الأحزاب العربية، فلن تجد فيها حزبا، يسعى في صنع إجماع، أو شبه إجماع، يسمو على عاداته وعقيدته السياسية، ويجعل جمع الشعب على إصلاح أمر الوطن غايته، وإنما هي أحزاب كالطوائف الدينية والعرقية، تتصارع على مكاسب حزبية، لا يُقنِع منها قول ولا عمل، وإن ألبسها جميل الدعاوي ما يظهرها على غير حقيقتها، وإنما هي ضرب من ضروب العبث، تدل على أن السياسة العربية ليست بأكثر من لعبة يتلهى بها السياسيون كما يتلهى الصبيان بالدمى، على الوجه الذي قال ونستون شرشل -وقد قيل له إن المصريين (أيام الاستعمار البريطاني) يريدون برلمانا وحكومة منتخبين-: give them toy to play with (أعطوهم دمية يتلهون بها). وليس في فوز واحد منها في انتخاب من الانتخابات، ما يعارض هذا الحكم، فإن النزاهة في الانتخاب العربي قليلة، وكثيرا ما يكون التصويت فيها على القرابة، والجهة، والمنفعة الخاصة، والعقيدة السياسية، ولا يكاد يفوز بها إلا أحزاب الرؤساء، وهي أحزاب، ليس لها برنامجٌ سوى مناصرة الرئيس، ولا تاريخٌ، يدل على أن في جعبتها ما يمكث في الأرض، ولم يُعرَف واحد منها، ولا من غيرها، بجمع كلمة، أو لمِّ شعث، أو نهج في السياسة، يستن به، أو يرجى أن يَصْلح عليه أمر البلد. لقد انتخبت أكثرية الجزائريين يوما جبهة الإنقاذ؛ لِمَا حرَّكتْ من أشواقهم إلى الهوية الحضارية التي أخمدها "حزب فرنسة" منذ الاستقلال، بيد أنها كانت حزبا غِمْرا، لا يَميز بعضُ قادته الفكر والسياسة من الوعظ والخطابة، وما كان الجزائريون من التماسك بحيث يمكنهم أن ينازلوا "حزب فرنسة"؛ ليفعلوا به ما حال هواري بومدين بينهم وبينه، وكانت الأحزاب متخالفة، ولا تجمعها غاية، ولا يوحدها رأي، من أجل ذلك حالف بعضها، حتى الأحزاب الإسلامية، "حزب فرنسة" على خيار الشعب، وأعانوه على بلوغِ ما خطط لبلوغه نحوا من ثلاثين عاما. وانتُخِب محمد مرسي بأغلبية بسيطة، لا اقتناعا به ولا بالإخوان، وإنما خوفا أن يفوز بالرياسة من يعيد مصر إلى ما قبل الثورة. لكن ثقة "مكتب الإرشاد" بما عنده، وسيطرته على محمد مرسي، جعلته يحيطه بفريق، يحول بينه وبين من لا يحب "مكتب الإرشاد" أن يتصل به، فكان عونا للمتربصين بالثورة على وأدها. ولم يحاول الإخوان أن يصنعوا إجماعا وطنيا على إنجاح الثورة، وحمايتها، وإنما استخفوا بالشعب، وأعرضوا عنه، واحتجنوا ثورته من دونه، وحالوا بينه وبين أن يحميها من الجيش وفلول الحكم السابق، وحسبوا أن المصريين إنما ثاروا على حسني مبارك ليضعوا مصر في أيدي الإخوان، يديرونها كيف شاؤوا، ولم تكن لهم غاية وراء ذلك، ومصر يومئذ أحوج ما تكون إلى الإجماع، والإخوان أحوج ما يكونون إلى الشعب. ثم خرجوا من الحكم، وقد خسروا كل شيء، ونكؤوا جراحا، رَمُّوها على فساد نحوا من سبعين عاما، وخسرت مصر ثورتها، واختلفت كلمتها، ووئدت أحلامها، وسقط الإخوان من عين من لم يكن يعرفهم.
ولا يجمع بين الأحزاب العربية إلا الأوطان، وهي قدَر، لو أُعْطوا الخيار ما اجتمعوا فيها، فهي فيها شركاء متشاكسون، يعتقد كل منها أن الوطن له دون غيره، وأن الشعب يجب أن يكون تبعا له، لا حَكَما بينه وبين من يخالف، على ما يدَّعي من أنه هو خيار الشعب، وضميره، ولا تهمه الوسيلة التي يَحسِم بها الخلاف، ما دامت تبلِّغه الغاية، إلا أن تكون الديمقراطية؛ لأنها تردُّ الأمر إلى الشعب، وبعضها يحبُّ أن ينال من الوطن أكثر مما يعطيه الشعب، لو جعل إليه الحكم بين المتخالفين. وتخالُفٌ كهذا من العسير أن ينتهي إلى كلمة سواء، ويزيده تعاصيا على التوافق أن ليس له مرجع، يفيء إليه، فالدين الذي هو قاسم مشترك، يفرض أنه أقوى شيء سلطانا على السياسيين، توجهه الثقافة أكثر مما يوجهها، ومن الثقافة الأهواء، والعقائد السياسية والنفعية، وهذا سببُ أنْ يعمل المرء بخلاف علمه ودينه، وأن يكون بعض من لا ينتسب إلى دين أو علم أنبل منه، وأشد استقامة، وخلافه أكرم؛ لأن ثقافته خير وأقوم من ثقافة العالم المتدين. أما ما قال العلماء في أدب الخلاف، فليس له كبير أثر في حياة كثير من المسلمين، لما شابه من تناقض بين القول والعمل؛ إذ قد يشتم العالم الذي ينظر لأدب الخلاف مخالفَه بأقبح الألفاظ، حين يردُّ عليه في مسألة يخالفه فيها، ويجدُّ في تبغيضه إلى الناس، ونسبته إلى ما دون الكفر، من الآراء والمعتقدات. وهذا يمحو آثار التنظير، ويبطل ما يرجى منه، ويبني ثقافة الخلاف الاجتماعية على التنافر. وبعضهم يُظْهِر مخالفه أبدا في صورة من يتحرَّى الباطل، ويستمسك به، إذا "هُدي" إليه، ولا يبيِّن مستنده فيما يرى، ولا يلتمس له العذر فيما يقول، وهو عمل لا يثمر إلا هذا التخالف ونحوه. ولا يَسْلم بعض ما يقال في أدب الخلاف من إشعار المخالَف بالتفضل عليه، إذ يعترف بإسلامه، ويدعو إلى حسن معاملته، مع أنه لا يستحق ذلك في الحقيقة؛ لأنه مبتدع. ولا يكاد يُفهَم مما يُكتَب في أدب الخلاف أن المتخالِفَيْنِ سيَّان في إسلامهما، وأن خطأ المخطئ منهما إنما هو خطأ في نظر المخالف، وليس حتما أن يكون خطأ، في الحقيقة، لنسبية الحق، وعدم قطعية الدليل. وهو عمل يستنبت الشعور بالتميز، وعدِّ المخالف دونًا، ولا يصلح عليه أمر المتخالفين.
ومن الكتب القليلة التي خرجت على هذا "فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة"، لأبي حامد الغزالي -رحمه الله-، فقد أفرغ فيه من علمه وعقله وورعه ما جعله فريدا في بابه، على صغره، كما كان أبو حامد فريد دهره، ونسيج وحده، غير أنه لم ينل من الشيوع بين العلماء والمثقفين قديما وحديثا ما نال غيره من كتب الخلاف التي كان بعضها شديدا في كل شيء، حتى أسمائه، كالصواعق، والسيوف، والصوارم، و"الصاروخ الهزاز"، إلخ. وهي أسماء، لا تترك في القلوب آثارا حسنة، ولا تدل إلا على أن واضعيها يحرصون على محو المخالف بأعنف وسيلة، وأبعدها عن (التي هي أحسن). ومما جاء في "فيصل التفرقة"، ولعله لم يسبق إلى إيضاحه وتقريره، قوله إن القاعدة المطردة المنعكسة في الإيمان والكفر هي أن الكفر هو: تكذيب النبي -صلى الله عليه وسلم- في شيء مما جاء به، والإيمان: تصديقه في كل ما جاء به، فمن حَمَل ما جاء به النبي -صلى الله عليه وسلم- على معنى، يحتمله كان مصدِّقا له فيما أخبر به، وليس حتما أن يتفق المسلمون في تفسير ما أخبر به النبي -صلى الله عليه وسلم-. وعَدَّ هذا القدر من العقيدة هو الأصول التي لا يجوز الخلاف فيها، وما عداه فروعا، يُتعاذر فيها كما يتعاذر في فروع الفقه. وما ينبغي أن يكفِّر المرء مخالفه "بأن يراه غالطا في البرهان"، وإن جاز أن ينسبه إلى الضلال، "من حيث إنه ضل عن الطريق عنده"، وإلى البدعة، من حيث قال ما لم يعهد عن السلف. فقلَّل ما يجب الوفاق فيه من أمور الاعتقاد، وفتح باب التعاذر في الخلاف فيما وراء ذلك.
ومما زادَ طينة التخالف بِلَّة، وإبَّالته ضغثا جِدُّ بعض الأحزاب في تغذية التخالف، وترسيخ التباعد بتسييس كل شيء في الحياة: الحقوق، والتعليم، والجمعية الخيرية، والجمعية الثقافية، والمستشفى، والمسجد، والمدرسة، والنقابة، والتعاونية، والتبرع بالدم، والتحية، والزيارة، والتهنئة، والتعزية، والابتسامة:
وكأنَّا لم يرْضَ فينا برَيْبِ الدَّ * دهـر حتى أعانه مَنْ أعانا
كلَّمـا نبَّت الزمـان قناةً، * ركَّب المرءُ في القناة سِنانا
والسياسة موطن اختلاف وتنازع؛ لأنها مبنية على تباين الأهواء والمنافع، وهذه وغيرها من المنظمات مرافق، يتلاقى فيها من يرغبون عن السياسة إلى عمل الخير، فإذا سُيِّست لم يبق للشعب ما يتوافق فيه. ومن أسوأ ما يترتب على تسييسها أن تُخْذل القضية العادلة، ويُحْجَم عن الباب من أبواب الخير، كرعاية اليتيم، والسعي على الأرملة، ونشر العلم، ومعالجة المريض، مخافة أن تكون حيلة، يَتَبَلَّغ بها المخالف نفعا سياسيا. وإذا حرصت الشعوب الديمقراطية على إخراج هذه المرافق والمنظمات من حلبة السياسة، وهي متوافقة على دساتيرها، وقوانينها، وأمرُها بأيدي مؤسسات، لا تخشى أن تتعدى حدودها، والخلاف بين أحزابها خلاف موسمي، في برامج خدمية، كالصحة، والتعليم، والتوظيف، والضرائب، والبيئة، والضمان الاجتماعي - فينبغي أن تكون الشعوب التي تختلف أحزابها في كل شيء أحرص على محاصرة السياسة، ودفعها عن كل باب، يعكِّر دخولها إياه صفو التعاون والتوافق.
إن تاريخ الأحزاب العربية، وثباتها على نهج، لا يتغير، لا يدع مجالا لتوقُّع أن تسمو على المنافع الحزبية؛ فتعنى بجمع الشعب على المشترك من رؤاه ومصالحه، وتقوده في معركة النهوض والبناء. وعدم وجود حزب عربي، يجتمع عليه أكثر الشعب دليل على إخفاق الحزبية العربية، وهو أمر يدعو إلى التفكير في مصير أمة، كلما امتدت بها الأيام ازدادت حياتها بؤسا وعبثية وتعقُّدا، وازداد التخالف بينها تناسلا، والتوافق بعدا، وزاد الأعداء تحكما فيها، وتمكنا من هندستها هندسة، تجعلها "كبقر الجنة: لا ينطح، ولا يرمح"، ولا تصلح لغير التخلف والتبعية. وإذا كان ما عَدَل إليه بعض الجماعات الإسلامية من العنف -بعد أن اقتنعوا بأنْ لا طائل من السياسة- لم يبلِّغهم ما يريدون، فلن تبلِّغ الأحزابَ العربيةَ سياستُها ما تدَّعي أنها تريد، ولن يكون عملها خيرا من عمل سيزيف.
بقلم: مختار بن الغوث، مفكر وباحث موريتاني مقيم فى السعودية