عقلية "الظهور" في مجتمعنا- قراءة سوسيونفسية

أربعاء, 2016-04-20 13:12

في النسق الاجتماعي يتبادل الفرد والمجتمع التأثير لا على أساس علاقة البعض بالكل (رياضيا) إنما على أساس علاقة الكل بالكل (إنسانيا) فهُما في الجوهر فضاء نفسي متحد لتشكل الحياة البشرية ولا وجود لتمايز جوهري بينهما إذا ما استثنينا مفهوم الحجم والعدد والإشارة الجبرية لمتجهات التحليل بين علم النفس والاجتماع. وبالانتقال إلى دائرة أعمق يمكن القول إن الكيان المعنوي المترجم لمرحلة من مراحل تشكل المجتمع (الدولة) داخل أيضا في علاقة التحول المتبادل تلك. فكأن الدولة تتقمص أحيانا شخصية الفرد كما يتقمص هو شخصيتها في سياقات معينة (كما يتبادل المجتمع والفرد التأثير والتأثر وعلاقات الإنتاج وإعادة الإنتاج تداخلا بين الظواهر النفسية والاجتماعية).

لدى البدوي المحلي (وهو في ذلك ليس بدعا مطلقا) نزعة إظهار القوة والتباهي حتى دون توفر الشروط الموضوعية لذلك فلا يقبل أن يظهر ضعيفا أمام الغير (ضيفا أو غريبا). يعود ذلك إلى جملة أسباب منها ما هو غريزي صرف - معاد تشكلّه بإكراهات البيئة الطبيعية (الفراغ) - ناشئ من الميل الفطري لحماية الذات في بيئتها الطبيعية (ملء الفراغ) حتى لو تطلب الأمر تضخيمها الصوري ومنه ما هو ترجمة لتشكل ثقافة متراكمة انبثقت عنها قيم معينة (الكرم). وفي مسعى التجمُّل ذلك، الجامع بين غرض الدفاع الاستباقي والتباهي الاستعراضي وتمثل القيم، يبذل الفرد أحيانا جهدا استثنائيا مكسرا كل أطر الحسابات الرشيدة مقلصا دور الأنا الموضوعية المتعقِّلة إلى أصغر حجم مفسحا المجال للمكونين النفسيين الآخرين (وفق التصنيف الفرويدي) المثالي والغرائزي بتوليفات متنوعة للخروج والتعبير عن وجودهما في صورة مبالغة في "الكرم" و"النبل" او في صورة مبالغة في "النشوة" و"المتعة" مع وجود مناطق تشكل مشتركة بين الصنفين يتحول فيها السعي للمثالي إلى شهوة والتمادي في الشهواني إلى قيمة فلا يكون الإسراف (وفق الأنا المتعقلة) كما كان بل يتحول إلى كرم ولا تبقى الشهوة النرجسية العابرة (التعالي الصوري) خطأ بل تتحول إلى مكافأة للذات على القيمة التي أنتجت (البذل بإسراف).

وفي هذا المبحث ليس بأحسن من أفراحنا الشعبية عينة دراسة لفهم ذلك التداخل العجيب الذي يكون فيه الفرد المجتمع ويكون المجتمع الفرد لأنه معين على فهم المستوى الآخر للتماهي (أي الفرد الدولة والدولة الفرد). ذلك أن تلك المناسبات تشكل موسما لتجاوز كل خطوط الرشد البدوي - التي لها نصيبها الكبير أيضا من قناعتنا الرشيدة نظرا لصعوبة البيئة وعامل الندرة - والانطلاق نحو مثلوية شهوانية و شهوانية مثلوية يختزل فيها الزمن في لحظة تعال من "فاغو" مقامنا الحياتي وينحسر "ابتيته" متحولا إلى نقطة مادية عديمة الدلالة إلى حين.

في تلك النيرفانا الاحتفالية تتغير معطيات اقتصادية راسخة (تتغير قيمة العملة الصرفية ويندثر مفهوم تكلفة الفرصة وينسف مبدأ الرشد وتتحرر الميزانية من قيدها الذي أرق الاقتصاديين عبر الزمن)، وتتغير معطيات اجتماعية-ثقافية متكرسة أصلا فتنعدم الحدود لدرجة أن الطبقية (أرسخ القناعات السلبية المتوارثة) تتمدد ليرقص "النبيل" مع " الهامشي" (وفق النسق الطبقي التقليدي) وتتغير معطيات دينية لتنكشف "السيدة المحافظة" على "العامي الأجنبي" ويُستدعى المخزون الذاتي الجاهلي مشكلا لوحة نرجسية مترجمة في التغني بالمجد القبلي مع تهذيب وتكييف لذلك ضمن مطلب الحفاظ على العرض ورخصة "الفرح" وغير ذلك من أدبيات مفهوم الفسحة المرن. لكن تلك الخروقات للمعايير "الرشيدة" تبقى، مع ذلك، مؤطرة في قوالب "رشد" في الوقت نفسه على اعتبار أن تبريرية نفسية-اجتماعية تنشأ بالتوازي لتهذيبها تحت مسميات عديدة "السترة" (مقابلها "لفظاحة") وإثبات الندية (بمعنى المعاملة بالمثل عرفيا) .. الخ. أي أن الأنا المتعقلة تعود لتسجل بصمتها حتى وهي "مختطفة" نحو مكونات النفس الحادة الأخرى أو لنقل إن تلك المكونات تعيد تكييف معايير التعقل لتناسب مثالية مستحيلة التحقق وغريزية حادة البروز (فالنفس البشرية لها فيزياء توزان عجيبة يمكن مقاربتها رياضيا بمفهوم نقل المحاور وتغير الأوزان النسبية مع بقاء الناتج ثابتا). هذه المتغيرات تجعل الخروج على الظاهرة الاجتماعية أمرا صعبا (إن لم يكن مستحيلا) حتى لدى غير المقتنعين بها تعودا وانتظاما في القطيع العرفي لأن إشكالات التغلب على تنازع الشحنات النفسية المعبر عنها آنفا ووجود رصيد تبريري مواز، كل ذلك يجعل الأمر مقبولا.

غرضي من اختيار زاوية التحليل هذه هو تتبع تبعات تلك النزعة في فضاء أوسع وأخطر: الدولة. هنا سأستلهم رؤية "متطرفة" لدى بعض أهل الاجتماع النفسيين في اعتبارهم أن المجتمع ليس له وجود موضوعي مستقل وإنما هو الفرد (كمفهوم) لأقول أن الدولة أيضا (ككيان مجتمعي فوقي ناظم) يعتريها بعض ذلك خاصة في ظل منسوب مؤسسية (بالمعنى السياسي القانوني) ضعيف جدا. فكأن تصرف الحكومات، في ظروف نضج سياسية ومؤسسية معينة، متسق تماما مع نزعة الفرد المحلي في تعامله مع محيطه.

فإذا كان الفرد المحلي – في سعيه للظهور المرادف ل"السترة" في الحد الأدنى (تبريريا) – يتجاهل معطيات موضوعية (اقتصادية وحتى دينية ثقافية) ليسجل موقفا استعراضيا انتشائيا استثنائيا في لحظة معينة فإن الدولة – الفرد في ظروف مماثلة قد تسلك ذات المسار ووفق نفس الآليات تقريبا. فملء الفراغ هنا يكون عبر الحرص على إثبات ندية على المستوى الإقليمي يقتضي إظهارها قدرا من المبالغة في الجهد الاستعراضي حتى على حساب ثوابت التعقل الموضوعية كندرة الموارد المالية وعدم الأهلية الفنية ووجود تكلفة فرصة كبيرة لما سيصرف في "المناسبة" (التعبير المحلي الجامع) بغرض "السترة" أمام "البرّانيين".

وإذا كان الفرد المحلي يلجأ مضطرا لإيجاد بدائل عملياتية لسد الهوة بين أفق تنفيذ مشروعه الفانتازي "المعقلن" تبريريا وواقع وضعه الاقتصادي والاجتماعي فيستخدم المتاع المؤجَّر (من الفرش إلى السيارة) مثلا ويقوم بالتحسين الأكسسواري لبنيته التحتية ضمن الموجود من دور وسيارات، و يصل به الأمر أحيانا إلى الدخول في عملية توضيب جسدية سريعة وخطرة صحيا (لإعادة إصلاح ما فسد أو استعصى مرفولوجيا) وتأجير قاعات (وأكواب أحيانا) وصولا إلى مستوى أبعد في مداءات ذلك المسعى لسد هوة طبقية أو اعتلال في "جين" وراثي من سلسلة "مجد" ال دي ان أيه" الوهمي (طبقيا وقبليا) فيؤجر مطربي ربابة شعبيين وحكواتية موزون لإيجاد مادة شعرية متغنية ب"أمجاده"، فإن الدولة وبهامش اختلاف يسير تسعى في المسار نفسه ووفق الآليات وأنماط التذاكي واللصق والتصرف نفسها لتحقيق حالة "نفسية" عابرة تستند إلى مسوغات مشابهة بمقياس مختلف.

فاستضافة القمة العربية (أو "المناسبة القبلية" تجوزا في المصطلح) يتم تقديمها كقرار وجيه اعتمادا على مفهوم "الظهور" عربيا ودوليا و"الكرم" في الضيافة (لدى البدوي الذي ينحر للضيف ركوبه ليكرمه) و الخشية من "الناقصة" في حال رفض عرض استضافة القمة في بلادنا، واعتبار الندية (لأن المغرب الجار كان سيستضيف "المناسبة" ونحن لسنا أقل شأنا) ..الخ. ولأن ثمة هوة فنية ومالية ومرفقية بين الهمة الحماسية العالية واليد الموضوعية محدودة المحتوى، سيتم التعامل بالتذاكي والتصرف في هامش الممكن فيُسعى لتنظيم القمة على طريقة تحضير فرح - "سعيد" مفاجئ - في إحدى دور "المناسبات". فقد بدأ الحديث عن إمكانية تأجير يخوت فندقية وقاعات مؤتمرات منقولة قابلة للتجهيز والطي وبدأت بالفعل أكسسرة وزركشة النسيج العمراني للعاصمة تبليطا وصباغة للواجهات وسيُتصرف بشدة وحزم مع بعض العشوائيات في الطريق المبرمجة لتنقل المواكب (تهذيب أزقة الحي وإزالة القمامة أمام البيت تجهيزا لل"مناسبة" في حالة الفرد – على أن تترك للفوضى مباشرة بعد انتهاء الحفل السعيد). وفي خضم هذا الزخم الاحتفالي لا صوت سيعلو فوق صوت مدفع "المجد" المنطلق من المزاد التحليلي للإشادة وتفنيدا لأي رأي نقدي، كما ستحدث النقلة السريعة التي ذكرتها سابقا حين يتخذ منطق الفسحة التبريرية مداه في كل الاتجاهات (تحدث البعض معتبرا أن مجرد تنظيم القمة – أيا كان تكلفتها وعد مناسبتها موضوعيا – يعد مكسبا في حد ذاته!)

في أغلب الأحوال، يكون اليوم الموالي ل"المناسبة" بداية لاستعادة الوعي النفسي وتراجع النزعة الحادة وبداية موسم بكائية المكون النفسي المتعقل واستعادة الفكر الاقتصادي عبر مراجعة لائحة الدائنين (ابتداء من دكان الحي إلى الصديق والمصرف) والحسرة على تكلفة الفرصة (كلفة صرف كل ذلك في مشروع ذي جدوى طويلة) ..الخ. هذا على مستوى الفرد لكن على مستوى الدولة سيكون وضع ما بعد "المناسبة" أكثر خطورة لأن مسؤولية الفرد الخاصة تناظر مسؤولية عن الشعب كاملا ولأن المصاريف جزء من نفقات عامة لها أكثر من مجال ملح للصرف ولأن الدائنين المحتملين متدخلون في الشأن المحلي.

لكن حتى على هذا المستوى سيبقى مجال التبريرية ومبدأ "العطالة" لتحقيق التوزان النفسي (فردا وعلى مستوى الدولة) قائما : فكما يتم تبرير المبالغة شعبيا في "المناسبات" وفق منهج نفعي توقعي (مآلات الزواج المادية وقيمة "هدايا" الفرح المعمرة) سيبرز، على مستوى القمة ("المناسبة")، من يبرر مزايا "الأعطيات" المرافقة من "أصدقاء" أهل الشأن وسيتحدث البعض عن منافع تلميع أكسسورات البنى التحتية كنوع من التنمية المستديمة عبر تحفيز البنى التحتية (مقاربة تقليدية في النظرية التنموية)! سيبرر آخرون الأمر بالقيمة غير السوقية التي لا يمكن تقديرها بتأكيد "عروبة" البلاد ومنزلتها في الجامعة (القبيلة) العربية .. الخ. لكن كما أن هدايا الأفراح ومنافعها لا تكون محل تعميم ولا استخدام رشيد يكون الأمر أكثر قابلية للحدوث على مستوى الجهاز الإداري المتسم أصلا بالفساد.

تملك النفس البشرية مخزونا عجيبا من بدائل إعادة التوزان بين طيشها ورشدها ودينامية المعايرة المرنة لذلك التنوع وتقنينه أخلاقيا. فكأن ذلك ينتقل في دوائر أوسع (بتناسب معين) إلى آفاق المجتمع والدولة فَهُما تجسيد – في بعد آخر- للفرد النواة في تفاعله تأثيرا وتأثرا إنتاجا للمجتمع ونتاجا للمجتمع! وفق ذلك المنطق (على ما فيه من تجوز تحليلي) يمكن النظر بموضوعية إلى بلادنا اليوم في وضعية من لديه "مناسبة" وبالتالي استخدام كل معطيات السيناريو النفسي - في مستواه الجمعي – في مسعى "الظهور" وتلبية غريزة التفوق (والتغلب على الدونية) وما يعنيه ذلك من تفاعل داخلي بين مكون المُثل ومكون الحاجة الغريزية ومكون التعقل في النفس البشرية وما يقتضيه هذا التفاعل الداخلي من "موائمات" نفسية في صورة تهذيب تقبلي وتبرير تنظيري!

أخيرا سيكون من المناسب التذكير، في معرض الحديث عن التحضير ل "مناسبة" القمة، أن الأمر داخل في حلقة المراوحة الاختزالية المقصرة للدارة (Court-circuitage)التسييرية للدولة بين الطاووسية في الاستعراض و النعامية في المسؤولية. ذلك أن القمة ستكون ثقيلة على القاعدة المحلية تنمويا خلال المرحلة التالية بعد أن تطوى الأفرشة ويعاد المستعار من متاع ويذهب المغنون والمصفقون بالمال ويبدأ "ارصيف" في مديونية الخزينة و"اشتيف الحال" الحكومي" المبرر بمكسب "الظهور" القومي و"اتشعشيع" الدبلوماسي!

عبد الله محمد [email protected]

 

اقرأ أيضا