لقد استمعت إلى جزء كبير من خطاب الرئيس في النعمة، وهو الخطاب الذي كانت مفاجأته الوحيدة أنه لم يأت بأية مفاجأة. هذا الخطاب الذي لم يأت بجديد كانت كلفته المادية والمعنوية على البلاد كبيرة وثقيلة، وهو ما سأبينه في هذا المقال، ولكن، ومن قبل ذلك فلابد من التوقف قليلا مع مضامين هذا الخطاب.
لا جديد في خطابات الرئيس
لقد توقع الكثيرون أن يأتي خطاب النعمة بجديد، ولكن الخطاب لم يأت بجديد، ولم يختلف عن خطابات الرئيس السابقة التي ظلت تتسم ب :
1 ـ تحميل كل ما تعاني منه موريتانيا من مشاكل للمعارضة الموريتانية الفاشلة، ولقد ظل الرئيس يكرر ذلك حتى أصبحنا بحاجة ماسة إلى إعادة كتابة تاريخ موريتانيا، لكي نفهم خطابات الرئيس السابقة، ولكي نفهم ـ وبشكل أوضح ـ خطابه الأخير. إننا بحاجة إلى تاريخ جديد يقول بأن الرئيس أحمد داداه هو الذي حكم موريتانيا فيما بين العام 1984 ـ 2005، وأن الرئيس محمد ولد مولود هو الذي حكمها فيما بين 2005 ـ 2007، وأن الرئيس جميل منصور أو الرئيس صالح ولد حننا هو الذي حكمها فيما بين ابريل 2007 وأغسطس 2008. هذا هو التاريخ الذي يجب علينا أن نعتمده إذا ما أردنا أن نفهم خطابات الرئيس عزيز، وعلينا أن نضيف إلى هذا التاريخ المصحح بأن محمد عبد العزيز المعارض البارز لنظام الرئيس السابق أحمد داداه كان قد تم اعتقاله لعدة مرات في الفترة ( 1984 ـ 2005) وهو نفس الشيء الذي حصل مع بقية معارضي الرئيس السابق أحمد داداه، حيث تم اعتقال المعارض الكبير محمد أبيليل والمعارض الشهير يحي ولد حدمين والمعارض البارز محسن ولد الحاج عدة مرات.
2 ـ الخطاب لم يحسم ـ وبشكل صريح ـ مسألة الجدل الدائر حول تعديل الدستور وتمديد المأموريات، بل على العكس من ذلك فقد وردت في الخطاب بعض الإشارات التي ستزيد من الشكوك حول هذه المسألة:
ـ لم يستشهد الرئيس عزيز في كل خطابته السابقة بأي كلمة لوزير من وزرائه، ولكنه في هذا الخطاب استشهد بكلمة لوزير العدل الذي يعد هو الوزير الأكثر تحمسا لتعديل الدستور من أجل زيادة المأموريات. يضاف إلى ذلك أن الرئيس دافع في خطابه عن وزراء التعديل الثلاثة بدلا من لومهم، وحمل للمعارضة مسؤولية ما اقترفه الوزراء الثلاثة من أخطاء جسيمة.
ـ حديث الرئيس في خطابه عن تنظيم استفتاء في الفترة القادمة من أجل إلغاء مجلس الشيوخ، وكل استفتاء قد يقود لاستفتاء آخر.
ـ لقد اعتبر الرئيس في خطابه بأن المعارضة هي عدوة للوطن، وأنه ليس بإمكانها أن تكون بديلا مقبولا للنظام القائم، وهو ما يعني ـ بلغة سياسية فصيحة ـ بقاء النظام القائم واستمراره في الحكم إلى أجل غير مسمى. يضاف إلى ذلك تأكيد الرئيس في خطابه على أن الشعب هو صاحب القرار النهائي في كل القضايا الوطنية، ومسألة زيادة المأموريات قد تتحول في يوم من الأيام إلى قضية وطنية يبقى الحكم النهائي فيها للشعب.
ـ يكفي من زيادة القلق حول هذه القضية أن الرئيس لم يحسم في خطابه مسألة تمديد المأموريات، ولا مسألة تغيير النظام السياسي، وإنما تركهما كمسألتين مفتوحتين أمام كل الاحتمالات وفقا لتطورات الأمور في الأشهر والسنوات القادمة.
3 ـ على العكس مما كان متوقعا فإن الخطاب لم يأت بجديد في قضية الحوار. ولقد كرر الرئيس في خطابه نفس ما كان يُقوله سابقا من أن المعارضة لا تريد حوارا، ولقد زاد في هذا الخطاب من مستوى السخرية والاستهزاء بالمعارضة. الرئيس وعد في خطابه بحوار جديد سينطلق بعد أسابيع معدودة بمن حضر، وللتذكير فقد وعد الوزير الأول في شهر سبتمبر من العام الماضي بحوار في الأسبوع الأول من أكتوبر، وهو الشيء الذي لم يتحقق.
4 ـ لقد كرر الرئيس انتقاده للمعارضة لأنها تريد تحقيق بعض المطالب من قبل البدء في الحوار. الطريف في الأمر أن الرئيس نفسه كان قد التزم في خطابه بحل مجلس الشيوخ، وبإبداله بمجالس جهوية، وذلك من قبل أن يبدأ حواره الموعود.
5 ـ في الجانب الاقتصادي ركز الرئيس، وكما كان يفعل سابقا، على أرقام كبيرة وعلى تنمية لا أحد من أهلنا في النعمة سيكون بإمكانه أن يتلمسها في واقعه المعيشي.
هذا الخطاب الذي لم يأت في مجمله بأي جديد، والذي لا شك أنه سيزيد من إحباط الجميع، وسيزيد من قلقهم على مصير البلاد، كانت كلفته باهظة جدا.
الدولة تموت في مدينة النعمة
لقد كان من كلفة هذا الخطاب أن الدولة ماتت في مدينة النعمة خلال أيام الزيارة، وخلال ما سبقها من تحضير لتحل محلها دولة القبائل والميليشيا والعساكر المنشغلين بالسياسة المحلية، ومن مظاهر موت الدولة خلال الزيارة وما سبقها من تحضير يمكننا أن نذكر:
1 ـ ظهور سيارات تحمل رجالا مسلحين بزي موحد داخل مبنى الولاية وهم يطلقون الرصاص. هذه السيارات كانت تتقدم أحد الوفود القادمة لاستقبال الرئيس.
المقلق في الأمر أن هذه الميليشيا لم يتم اعتقال أي عنصر من عناصرها من طرف السلطات الأمنية، وإنما تم اعتقال بعض النشطاء العزل : ناشطان من حركة 25 فبراير، وستة نشطاء من حملة "ماني شاري كزوال" كان ذنبهم الوحيد هو أنهم رفعوا في وجه الرئيس لافتات منددة بارتفاع أسعار المواد الأساسية، وخاصة منها أسعار المحروقات.
2 ـ دخول الوفود القبلية إلى مدينة النعمة وهم يرفعون ـ وبكل وقاحة ـ ألوية قبائلهم . لقد ظهرت القبيلة بشكل وقح ومستفز خلال هذه الزيارة بينما غابت الأحزاب السياسية والكيانات ذات الطبيعة المدنية، حتى ولو كان ذلك من الناحية الشكلية فقط. في الماضي كانت القبائل تطلي ألويتها ووفودها بطلاء مدني شكلي : مبادرات ـ أحزاب ـ تجمعات قروية... ولكن القبائل في هذه الزيارة أماطت اللثام وأزالت الطلاء عن وجهها غير الصبوح.
3 ـ انخراط قادة عسكريين برتب عالية في التجاذبات السياسية المحلية، وظهور هؤلاء القادة ـ وبشكل فاضح ـ وهم يحضرون مع وفود القبائل لزيارة الرئيس. إن مثل هؤلاء القادة هم الذين يسيئون إلى المؤسسة العسكرية، وهم الذين ينزلون بها إلى الدرك الأسفل من الصراعات السياسية المحلية، وتلك كلمة أقولها لأولئك الذين لا يطالبون بضرورة إبعاد المؤسسة العسكرية عن التجاذبات السياسية، إلا عندما يتعرض بعض قادة تلك المؤسسة لانتقادات من طرف المعارضة، وذلك بسبب انخراط أولئك القادة العسكريين في العمل السياسي.
4 ـ تبذير أموال طائلة للتحضير لهذه الزيارة، وغياب كبار الأطر وصغارهم عن أماكن عملهم، وهو ما أصاب الإدارة المشلولة أصلا بالمزيد من الشلل. إن الأموال الطائلة التي أنفقت في هذه الزيارة العديمة الجدوى كان الأولى إنفاقها في بناء المدارس و في تشييد المستشفيات وفي ضخ الماء في المناطق التي يهددها العطش.
المضحك المبكي، وقديما قيل بأن شر البلية ما يضحك، هو أن الرئيس الذي كان ينتقد معاوية على زياراته الكرنفالية سيسجل له التاريخ بأن هو الرئيس صاحب الزيارة الأكثر كرنفالية في تاريخ موريتانيا.
إن ما شاهدناه في هذه الزيارة من مظاهر بذخ، ومن إذكاء للنعرات القبلية، ومن انخراط للقادة العسكريين في العمل السياسي جعلنا نحِنُّ إلى معاوية وإلى زياراته، والتي كانت ـ وعلى الرغم من سوئها وبؤسها ـ أقل بذخا وأكثر احتراما للدولة ولمؤسساتها من زيارات الرئيس الحالي.
اللافت في الأمر أن هذه الزيارة التي أنفقت فيها أموال طائلة في هذا العام العصيب، والتي تم الاعتداء من خلالها على الدولة وعلى مؤسساتها بشكل فج، لم تستطع أن تجمع حشودا غير مسبوقة كما تم الترويج لذلك، بل على العكس من ذلك فقد كان الحضور أقل من عادي.
حفظ الله موريتانيا..
محمد الأمين ولد الفاضل
[email protected]