لشعوب العالم تاريخ طويل وتجارب مرة مع حكم العسكر وخلفيته الأحادية، ولم تتخلص تلك الشعوب في إفريقيا أو آسيا من ويلات التخلف والفقر وعدم الاستقرار إلا بعد أن تملصت بصعوبة من أصحاب الأحذية الغليظة، لكن واقع شعوبنا العربية ينذر بديمومة المأساة حقبا طويلة من الزمن ما لم تنتبه النخب فينا لتقود عملية وعي ونضال لا هوادة فيها من أجل تخليص أجيالها القادمة من براثن وويلات التخلف والفقر والتبعية، تِلك العناوين التي تعتبر منجزات العسكر في عالمنا العربي.
فقد عانت هذه الشعوب لعقود من الزمن ألوانا من الحيف والظلم والتخلف على أثر انقلابات عسكرية تدعي نفرة من أجل الديمقراطية مدعية انحيازها للشارع ونبض المواطن واعدة بتوفير وسائل العيش الكريم والحفاظ على كرامة الأمة وحسن تسيير مقدراتها ولا أنكر أن لتلك البيانات الأول والقائمين عليها قدرا من حسن النية وصدق التوجه ابتداء ريثما تنضج روح الطغيان والتسلط عند حملة النياشين والأوسمة فلكل ثائر أو مدع ثورة نصيب من الصدق يوم خطط ونفذ لكن ذلك القدر يخفت ويتلاشى بمجرد الوصول للسلطة وتفيؤ ظلالها الساحرة فيدلف المدعي إلى عوالم النفوذ والمال التي بطبعها ساحرة جذابة تسبي ضعاف التربية والتصور للكون والحياة الذين لم يروضوا أنفسهم على التضحية من أجل الصالح العام...
لذلك كان القذافي يوم قدم السلطة وانقلب على الملك السنوسي ثائرا بحق على ضعف السلطة وفساد الحكومة وقبله كان محمد نجيب يوم قاد الضباط الأحرار وأنهى مملكة فاروق وانتصر عبد الناصر للفلاحين وجاء من بعدهم بن على ببيان السابع من نوفمبر ليخرج الدولة التونسية من خرف بورقيبة ويضع حدا لنهب المال العام ويبني الديمقراطية ورغم الحصاد المر لتلك التجارب الانقلابية وما تبين لكل ذي عين من خطل التدبير وفداحة الفشل في جميع الوعود وما عانته الشعوب كي تتخلص من تلك النظم الإجرامية الدامية مازالت وتيرة الانقلابات على حالها وأبواق وعودها السرابية تعيد أسطوانة الدعاية المشروخة بوعود كاذبة خاطئة الأمر الذي يدعونا للعودة ولو قليلا لأمثلة من الحصاد المر لتلك الانقلابات حتى لا تضيع منا عقود من الدهر ننتظر وهم إنجاز مكذوب تدفع أجيالنا القادمة على أثره ثمنا باهظا لإزاحة تلك الأنظمة الشريرة.
وإليكم هذه التعويذة من كلام القذافي في اول بيان (لثورة الفاتح المجيد) :
(وبضربة واحدة من جيشك البطل تهاوت الأصنام وتحطمت الأوثان فانقشع في لحظة واحدة من لحظات القدر الرهيبة ظلام العصور، من حكم الأتراك إلى جور الطليان إلي عهد الرجعية والرشوة والواسطة والمحسوبية والخيانة والغدر، وهكذا منذ الآن تعتبر ليبيا جمهورية حرة ذات سيادة... )
كان ذلك يوم ليبيا الأول من "الخلاص" و"المثالية" ولم يكن الشعب المغدوروحناجره تصدح في الطرقات تأييدا ومساندة يدرك أنها بداية النهاية لفاتنة عشقتها الشعوب وضحى من أجلها الأحرار وتغنى بها الشعراء إنها الحرية..
الجماهير التي خرجت إلى الساحات وكالت للملك من الشتائم أقذعها وأعطت الانقلاب من الهتاف أجمله مرحبة بفجر أطل يبدد الآلام واللأواء لم تكن تدري أنها كانت تمشي خلف جنازة الأمل، وأن ما تخيلته رتقا لما انخرممن الدّولة وفسد من أمر الحكم كان القاضية على كل أشكال الدولة الحديثة التي توصل إليها العقل البشري وآثرتها التراكمات الحضارية لساكنة الكرة الأرضية، لم تكن تدري أَنَّ كل الَذِي ترجوه أصبح في خبر كان.
لم يكن الناس يدركون بأن باب الجحيم قد فتح اليوم وأن باب المجازر للطلاب في الجامعة وللسياسيين في السجن قد أضحى مشرعا، لم يكونوا على علم بأنهم بعد أربعة عقود وتزيد سيجدون أنفسهم أمام ذات الثائر وقد أصبحملكا ليس لليبيا فقط بل لملوك إفريقيا جميعها، وأن الثروة التي عقدوا عليها أمل التنمية والرخاء وزعت على أطراف الأرض تغذي الحروب وتزرع العنصرية وتنبت جيلا مسخا من لقطاء الولاء في كل قطر مشوهي الثقافة عديمي الخلق منكوسي الفطرة أين ما توجهه لا يأتِ بخير، وأن أبناء ذلك الثائر العظيم سيتوزعون مراكز القوة في الجيش ومنافع الاقتصاد في الدولة وان مدن لبيا تنتظر على يد "الفاتح الجديد" من الدمار والانتقام ما عجزت عنه مخيلة الطليان.
لَمْ يكن الشعب الليبي يعلم أن العلم الَذِي ثار عليه والنشيد الذي نسيه سيكونان أيقونة التحرر ورمز الخلاص إنه التيه أكثر من أربعين عاما ليجد الشعب نفسه أَمَام المجهول منهار الدولة مفكك الأوصال قد تم تفخيخ كياناته الاجتماعية بالأحقاد والصراعات الجهل والفقر والطغيان يسحقه.
وهاكم مثاليات بن علي في بيانه الاول بتصرف :
(أيها المواطنون، أيتها المواطنات إنّ شعبنا بلغ من الوعي والنضـج مـا يسمـح لكـلّ أبنائـه وفئاتـه بالمشاركة البنّاءة في تصـريف شؤونه في ظلّ نظام جمهوري يولي المؤسّسـات مكانتـها ويوفّـر أسبـاب الدّيمقراطيّـة المسؤولــة وعلـى أسـاس سيـادة الشعـب فلا مجـال فـي عصرنا إلى رئاسة مدى الحياة ولا لخلافـة آليـة لا دخـل للشعب فيها، و على إعطاء القانون حرمته، فلا مجال للظلم والقهر ولا سبيل لاستغــلال النفــوذ أو التســاهل فــي أمــوال المجمــوعة ومكاسبها...)
هكذا تغنت الجماهير في تونس الخضراء بروح التغيير واعتبرته يَوم الانعتاقوما درت أن صاحب البيان سيقوم بتغيير الدستور بَعد أن حطم طغيانه خيال نفسه في مدد البقاء في الحكم الّتي سطر هو في دستوره وان مال المجموعة الذي نص عليه البيان سيصبح دولة بين حفنة من المقربين من مصاصي الدماء حرموا الجميع ونالوا من كل أبي، وأن صاحب البيان سيشتت أهل الجد والنخوة من شعبه بين مطارد وسجين، حيث التهمت سجونه الرهيبة مئات الآلاف من المعذبين ليتكشف الأمر عن دولة العائلة بقيادة ماشطةالفرعون الجديد فيتكاثف الغضب الَذِي فجر الوضع وأخرجه عن السيطرة.
وقل الشيء ذاته عن انقلاب مصر في الثالث والعشرين يوليو سنة اثنتين وخمسين وتسع مائة وألف حيث الوعود بزوال إسرائيل والتنمية القومية وتركيز الديمقراطية، فتمخض جبل الوعود عن مشانق وسياط تعذيب طالت الصفوة من النساء قبل الرجال راحت فيها كوكبة الفكر والنضال ووسط أبواق الدعاية عربد الاحتلال الصهيوني من القدس إلى سيناء، وجرَّت ممارسات البطش وطغيان العسكر الشعوبَ المتآخية إلى الكفر بالوحدة وما يمت لها بصلة وكانت مخرجات التنمية مديونية ظلت مصر ترزح تحتها إلى أن باعت هيبة الدّولة ومكانة الأمة في حملة تسول محموم من أجل محوها.
كما صبّ نظام الأسد الطائفي في الثمانينيّات حمم الطائرات على مُدن الشام العريقة في مشهد من البغي وروح الانتقام وتقطيع الأواصر والتنكر للوطنية والأبعاد الإنسانية عجز عنه المحتل الفرنسي ولم يجرأ علي مثله ليعيد الكرة في مشهد جهنمي أفظع وأخبث يصب براميل القنابل ليس على إسرائيل التي صبر عنها أربعة عقود تحتل أرضه بَلْ على الشعب السوري العظيم الذي قال : "كفى!".
ورغم أن المراقبين كنوا يَرَوْن في على عبد الله صالح أعقل العسكر حيث بنىسنوات حكمه الطويلة على الفوضى الخلاقة معمقا القبلية والمحسوبية تاركا هامشا من الحرية بديمقراطية الحمل خارج الرحم التي مكنته من اللعب على التناقضات القبلية والجهوية والطائفية لكن الله أراد أن يفضحه بقتل الثوار بدم بارد في جمعة الشهداء وما بعدها من تشبث الرجل بالحكم لآخر لحظة وهو محروق قد بدل جلده يرفض أي تنازل لثورة الشباب العظيم ثم تكون خاتمته بتحالف مخزي مع نقيضه في القومية إيران فارس ليسلمها اليمن الذي بدلت عقود حكمه المشؤوم سعادته شقاء..
ولم يكن حالنا في موريتانيا أفضل بكثير حيث أثبتنا عروبتنا بجدارة في نقض العهود والمواثيق وخيانة الالتزامات والتغرير بالشعب المغلوب على أمره ولأنني لا أستطيع تتبع الانقلابات الكثيرة وبياناتها (الزاهية الواهية ) فأترككم مع لقطة من واحد من أهم تلك الانقلابات وهو انقلاب الثالث من أغشت سنةألفين وخمسة (وهذا المجلس يلتزم أمام الشعب الموريتاني بخلق الظروف المؤاتية لديمقراطية نزيهة وشفافة).
دخل"المجلس العسكري للعدالة والديمقراطية" في سباق محموم مع الزمن من اجل وضع البلد على سكة الديمقراطية وتخفيف الاحتقان وتفعيل أدائنا التنموي ورغم الشوائب التي من أهمها الوصاية على المجتمع والتحكم في مخرجات تفاعله مع العمل السياسي فقد حظي المجلس بقيادة تملك رؤية وطنية ولها من العلم والتجربة ما مكنها من إنجازات مهمة غيرت وجه البلد البائس وأعادت الأمل لنخبته بإمكانية القطيعة مع عهد الاستبداد والفساد فقد أنجز المجلس انتخابات غير مسبوقة في تاريخه من حيث الشفافية ونزاهة الصناديق ما جعلنا نحطم لأول مرة الرقم العربي 99.99% إلى ما يشبه الديمقراطيات العريقة في الغرب وأرقامها الواقعية 52% وخرج المجلس بتعديلات دستورية عمقت التعددية ومفهوم الدولة الخادمة للجميع وحددت فترة الرئاسة بفترتين لا يمكن تجاوزهما بنص القسم الدستوري كما أن محفظة القوانين طالها التحوير نحو لبرالية الإعلامومنظمات المجتمع المدني.
إلا أن المتنفذين في ذلك المجلس بعد أن تخلصوا من زملائهم الذين كانوا أعمق فكرا وأبعد نظرا قضوا على التجربة بعد سنة ونصف معلنين ذبحها في بيان يعتبر أفقر البيانات من حيث المضمون إذ كانت حشوته الأساسيةالمجلس (الأعلى) للدولة وكلمة "لاغٍ" ما يفيد بأن الانقلاب لِم يكن غيرة على المجتمع والدولة بقدر ما كان انتصارًا للنفس وعقدة العلوية والسفلية ومنذذلك اليوم ونحن نمشي القهقرى نحو مصير مجهول مخيف.
لقد تحول قادة تلك الانقلابات من ثوار خرجوا من ثكناتهم لإسعاد الشعوب وبناء رفاهية للأمة إلى عوامل هدم وتشظ لمجتمعاتهم فأعملوا فيها سوط الطغيان تعذيبا وتغريبا وأشاعوا الفساد والمحسوبية ونصبوا المشانق لخيرتها وبددوا ثرواتها مطلقين العنان للمحسوبية متنكرين لكل شعار رفعوه اللهم إلاما كان من باب الدعاية الموغلة في الإسفاف واحتقار ذهنية المتلقي وكانوا أكثر شرا وأنكى فداحة من جميع ألوان الاحتلال التي شهدها التاريخ الحديث فهم أكثر تدميرا لشعوبهم وأقل رحمة من من الصهاينة وكل ألوان الاحتلال الفرنسي والإنجليزي ، والحملات الصليبية قد تكون أرحم منهم.
الأمر عائد إلى أن المنقلبين لم يكونوا يمتلكون من قيم الحكم ولا تقاليد السياسة ما يسمح لهم بتدبير شؤون المخلوقات إنهم أغرار جياع تفتحت أعينهم على حظوة الملك والسطو على خيرات لم يألفوها ومكانة النفوذ والاستحواذ على كل مميزات الدولة الحديثة وهي كثيرة وفيرة، ثار البغاة على الملكيات لكنهم جاؤوا بكل سيئاتها وأكثر حيث ورثوا الحكم لسلالتهم المستنسخة ولقد أثبتت الملكيات أنها وإن كانت تقليدية وبعيدة عن التطور فإنها أكثر نضجا ورحمة بشعوبها ورفقا بمواطنيها من الأشرار المنقلبين على إرادة الأمة، السؤال المطروح بقوة علينا كنخبة ومجتمع هو هل يجوز لنا ان ندخل جحر الضب الذي تاهت فيه تلك الشعوب قبلنا لنعيد تجربة الخنوع عقودا ننتظر بأجيالنااللاحقة سكين سلاخ يعمل فينا مديته بعد التمكن كأننا شاة عيد؟!
يتبع في حلقة قادمة إن شاء الله