يحيى بن بـيـبه رئيس رابطة التطوير والتنويع الزراعي
قدمت الحكومة الموريتانية، مدفوعة بإرادة سياسية واضحة، من رئيس الجمهورية، استثمارات كبيرة، خلال السنوات الماضية، لتمكين الأرز الموريتاني، من تبوؤ مكانته اللائقة، على موائد الموريتانيين.
وبرغم أن هذه السياسة، أسفرت عن مضاعفة الإنتاج، وانتعاش الطبقة الزراعية، إلا أن قطار التطوير هذا، ظل يعاني من مكابح فساد، وآليات فرملة، مصدرها الإدارة التجارية لسونمكس، التي نعتقد أنها السبب غير المباشر، فيما وصل إليه قطاع زراعة الأرز، من انهيار خلال الأشهر الماضية.
فكيف يسمح لشركة شبه حكومية، أن تكون سببا في انهيار قطاع استراتجي، تتباهى الحكومة بانجازاتها فيه؟ ذلك ما سننهض بعبء توضحيه في هذا المقال، وإن بدا الأمر غريبا.
يعتبر قرار ضمان شراء الحكومة، لمحصول الأرز الوطني، سيد الإجراءات الحكومية، التي قفزت بهذا المحصول، خلال فترة وجيزة، حتى وصل إلى تغطية 85% من الاحتياجات الوطنية، حسب ما ورد في خطاب رئيس الجمهورية الأخير بالنعمة. وهو القرار الذي تم التراجع عنه، قبل نحو تسعة أشهر، لينهار المحصول خلال الموسم الماضي، إلى نحو ثلث ما كان عليه. ولتتقلص المساحة المزروعة حاليا، إلى ثلث ما كانت عليه، في مثل هذه السنة، من العام الماضي.
فما سبب هذا القرار؟ وما دخل الإدارة التجارية لسونمكس فيه؟
يعود القرار الحكومي المفاجئ من وجهة نظرنا، إلى أسباب ثلاثة رئيسية:
1-التراجع الحاد في مداخيل الخزينة العامة، نتيجة عوامل أبرزها، انهيار أسعار الحديد، من 147 دولارا للطن، إلى أقل من 40 دولارا. هذا مع العلم بأن المداخيل من المعادن، كانت تمثل نحو ثلث مداخيل الخزينة.
2-فشل نظام تسويق الأرز المعدول عنه، في تحقيق الأهداف الحكومية المتوخاة منه، وتحوله إلى آلية لتحقيق الإثراء السريع، غير المشروع، لفئة صغيرة لا علاقة لها بعملية الإنتاج مباشرة .
3-وجود نحو 50.000 طن من الأرز الموريتاني الأبيض، السيء التقشير، في مخازن سونمكس، لم تستطع الدولة إيجاد سبيل لتسويقها، لأنها "نصف مقشرة".
وإذا ما عرفنا أن الدولة دفعت، في شراء هذه الكمية نحو 10.000.000.000 أوقية، باعتبارها أرزا ممتازا، فإننا سندرك المأزق الذي وجدت الحكومة نفسها فيه، خلال هذه الفترة، التي تتميز بشح الموارد المالية.
ومما لاشك فيه، أن الإدارة التجارية لسونمكس بريئة، فيما يتعلق بعامل تراجع مداخيل الميزانية.
لكن هل هي بريئة، فيما يتعلق بالعاملين المترابطين، الثاني والثالث؟
تحتاج الإدانة إلى توضيح نقاط، قد يجهلها القارئ البعيد، عن أجواء القطاع الزراعي.
ينص الاتفاق، الذي يربط الدولة بأصحاب مصانع تقشير الأرز، على ألا تسلم هذه المصانع للدولة، إلا الأرز المقشر بطريقة ممتازة. وتسمح هذه العملية لأصحاب المصانع، بالحصول على عائد ربحي مشروع، نقدره بنحو 20%، في حالة الالتزام بمعايير الجودة، وهو ما يعني أن صاحب المصنع، سيحصل من كل 100 طن من الأرز الخام، على نحو 55 طنا من الأرز الأبيض، والباقي منتجات ثانوية، تباع كأعلاف للحيوانات بسعر منخفض.
أما عند تراخي صاحب المصنع، في ضبط أجهزة التقشير، فإنه يمكن أن يحصل على الأقل، على 65 طنا من الأرز الأبيض، من كل 100 طن أرز خام.
وفي هذه الحالة، يحقق ربحا إضافيا، نعتبره غير مشروع، قدره 1.960.000 أوقية، من كل مائة طن خام. لكن الأرز الأبيض، الناتج عن هذه العملية، يصبح رديئا، ومليئا بالقشور الخشنة للأرز.
ولمعرفة حجم هذه العملية، وما يمكن أن يكون وراءها من أطراف، نذكر بأن الأرز الذي سلم لقناة الشراء الحكومية، خلال الصيف الماضي، بلغ نحو 78.000 طن من الأرز الخام. وقد أعطت الحكومة الحالية تعليمات مشددة، بحسن تقشيره، وهو ما انعكس على زيادة ملحوظة، في استهلاك الموريتانيين لأرزهم المحلي، خلال الشهور الأخيرة. ولكننا مع ذلك، سنستخدم هذه الكمية بالذات، لحساب ما ينشأ عادة، خلال السنوات الماضية، من مبالغ كبيرة، نتيجة التآمر على المحصول الوطني، برغم اعترافنا بأن هذه الكمية، قشرت بطريقة جيدة، أو متوسطة: 78.000 طن ÷ 100 طن × 1.960.000 أوقية = 1.528.800.000 أوقية.
هذه حصيلة عملية الفساد هذه، خلال حملة واحدة، في حالة ما إذا قشرت بطريقة "متبتبة"..! فما هي الحصيلة الإجمالية خلال السنوات الماضية؟. لا نعرف. وخير لنا ألا نعرف..!.
هذا وتنص آلية الشراء الحكومي هذه، على تولي سونمكس، عبر إدارتها التجارية، لمسئولية التحقق، من مطابقة الأرز المقشر لمعايير الجودة. كما تنص على استلامها، وتخزينها لهذا الأرز.
لكن الذي حدث، أن الإدارة التجارية لسونمكس، أغمضت عينيها، وملأت مخازن الشركة، بعشرات آلاف الأطنان، من الأرز "نصف المقشر"، الذي يخجل أي مزارع، من أن ينسب إلى الانتاج الوطني. ودفعت ببعضه إلى دكاكين أمل، ليصبح الأرز الموريتاني، موضع استهزاء واشمئزاز...!
وبذلك ضربت هذه الإدارة الاقتصاد الوطني في الصميم، عندما دمرت الثقة بين المستهلك الموريتاني، وإنتاجه الوطني. وحرمت أغلب المواطنين، من منتوج صحي، يتميز عن الأرز الأجنبي، بجدته، وخلوه من المواد الحافظة. فلماذا يفعلها مسئولو الإدارة التجارية لسونمكس؟
هل الأدعية الصالحة، لأصحاب المصانع، بدخول هذه الإدارة الجنة، وتسهيل مرورها على الصراط، كافية ليخاطر مسئولو هذه الإدارة بوظائفهم، وبأنفسهم في ارتكابهم "جناية" تسلم هذا الخليط، من "قشور الأرز والأرز"، الذي يهدد بهدر نحو 10.000.000.000 أوقية من أموال دافعي الضرائب؟
يحتاج المرء إلى جرعات مركزة من الغباء، للاقتناع بهذا الاحتمال...! فما السبب إذا؟.
ليست الإجابة على هذا السؤال شأننا. إنها شأن لجنة تحقيق جادة، إن أريد أن تكون له إجابة، تساهم في تخليص القطاع، من أنياب آليات الفساد.
والغريب أن حكومتنا، حملت أصحاب المصانع وحدهم، مسئولية هذا "الأرز الفضيحة"، وتركت "اطيور النازلين"، ممثيلها الذين وقعوا على استلام هذه "القمامة الزراعية"، التي دفعت الدولة في شرائها نحو 10.000.000.000 أوقية، مما يجعلها ربما، أغلى قمامة في تاريخ البلاد.
وقد ضغطت الحكومة، على موردي الأرز الأجنبي، لشراء 19.000 طن من هذه الكمية، بسعر مخفض، ومؤجل التسديد، خسرت فيه الدولة، نحو 30.000 أوقية من تكلفة كل طن. كما خسر فيه التجار المشترون، الذين ما يزالون حتى الآن عاجزين عن تسويق هذه الكمية لرداءتها، برغم أنه سمح لهم باختيارها، من ضمن مخازن سونمكس.
أما الكمية الباقية، فتتجه سونمكس لشحنها إلى روصو، لإعادة تقشيرها من جديد، كما أبلغنا مسئول حكومي رفيع، خلال اجتماع رسمي.
وهذا يعني أن كل طن سيكلف الدولة نحو 24.000 أوقية، بين الذهاب والإياب (4000 حمالين + 10.000 نقل + 10.000 أجرة تقشير). وبذا تكون الخسارة الأولية من إعادة التقشير هي: 24.000 × 31.000 طن = 744.000.000 أوقية.
يضاف إلى هذا، أن نحو 30% من هذه الكمية، سيتحول خلال عملية إعادة التقشير، إلى منتوج ثانوي للعلف، يباع بنحو 60.000 أوقية للطن، بدلا من تكلفته التي وصل بها انواكشوط، وهي نحو 205.000 أوقية.
وبذا تكون الخسارة في الكمية المقشرة هي: 205.000 – 60.000 × 9300 (30% من الكمية) = 1.348.500.000 أوقية.
أما الخسارة من عملية البيع المخفض إلى التجار، التي اضطرت إليها الحكومة فهي: 30.000 × 19.000 طن = 570.000.000 أوقية.
مجموع خسارة الدولة، من عملية استلام الإدارة التجارية لسونمكس، لأرز "نصف مقشر" هي: 744.000.000 + 1.348.500.000 + 570.000.000 = 2.626.250.000 أوقية.
هذه هي التقديرات للخسارة المتوقعة، من هذه العملية المشبوهة، بشرط أن يتحلى مسئولو الإدارة التجارية، بالأمانة والشفافية، خلال عملية التقشير، التي ستتم في مصنع جديد لسونمكس. على أن الخسارة الأكبر يصعب قياسها بالمال.
إنها خسارة الثقة بين المستهلك الموريتاني، ومنتوجه الوطني.
وبرغم هذه "الفعلة" الواضحة، لم يقم حتى الآن أي تحقيق، ولم يتعرض أي مسئول للمساءلة. و "ما زالت حليمه، تمارس عادتها القديمة".
فهل نحن أمام إدارة تتمتع بالحصانة المطلقة؟! أم أمام مسئولين مدرعين ضد المحاسبة، تدريعا تقاصر دونه، تدريع دبابة ميركافا الإسرائلية؟!
اللهم إني أبرأ إليك من فعل هؤلاء، وأبرأ إليك من صمت أولئك..!
ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد..!