ليلة لا كالليالي تلك سرنا في رحلة عبر الزمن، و شددنا فيها رحالنا من أضواء المدينة المتلألئة إلى ظلمات المزارع، ومن حياة الجدران الأربعة إلى فضاء مفتوح تقلب فيه طرفك ذات اليمين وذات الشمال فلا ترى إلا النجوم المتلألئة في السماء.
أجل.. نزلنا أرض "آدوابه بورات" بعد منتصف الليل، فاستقبلنا نصف ليلها الثاني بقمر فضي يصعد حاملا معه نورا يتبدد في أفق الحقول، فيضيء على خيم من الصوف وأكواخ تتراءى للناظر على مد البصر، عجائز الحي تستقبلك بحفاوة كبيرة في كرم أصيل لهذه الأحياء ويتسابقون إليك يسألونك عن ما تريد وما أحب الوجبات إليك.
هدأ الليل وخشعت أصوات آدوابه فلا تسمع إلا شهيق الحمر في الغابات البعيدة أو صوت المديع من حناجر دأبت على مدح "النبي الأعظم"، أنظر إلى القمر وهو يستعد للتربع في الأفق اسائله عن زمان مضى : منذ متى وهو شاهد عدل على حياة "آدوابه" البائسة، وهل يراقب الفلاحين منذ فجر التاريخ في هذه البيداء؟ وهل شهد على أقوام تقطعت بهم السبل وهلكوا جراء العطش والجوع في سهل آفطوط الأجرد؟!!.
صياح الديكة يوقظك وقت السحر ينبئ أن هناك يوما من الكد قادم في هذه الصحراء، ويرتفع أذان الفجر في كل جوامع الحي مع غبش الفجر الجديد ثم ينتشر القوم بكرةً يتنافسون على الأعمال بمختلف أشكالها، هذا رجل أخذ جواده إلى الحقول، وهذه فتاة تشد عربتها على الحمار استعدادا لسقاية عائلتها من غدير يبتعد عن أحيائنا عدة أميال، ويمضي يوم كامل في الكد والعمل بين أبناء الحي وبناتها، في الزوال تصك أذنك أصوات حوافر الخيل وهي تطرد غرائب الإبل من الحقول، وتنظر فإذا النساء يرجعن بسقايتهن وقت الظهيرة.
عندما تصفر الشمس ويحين الغروب تسمع أشرطة الفقيه محمد ولد سيدي يحي تملأ الآفاق يتحدث لك مرة عن "علماء بنافه" وينتقد مرات حياة "البطارين" وكأنه يشاركهم في ثورتهم على الإقطاع، فيكون وقت المساء عبارة عن دروس لجميع الأحياء المتباعدة.
يقول محمد ولد سيدي يحي في أحد الأشرطة المفتوحة في أدوابة "بورات" : أحيانا يكون الحمار أذكى من الدكتور كثيرا، فعندما تقول للحمار "هوهْ" سوف يفهمك، وعندما ينهق الحمار لا يستطيع الدكتور فهمه، هل علمتم أن ذكاء الدكتور محدود جدا..؟!!
أخذني مضيفي بعد صلاة المغرب وأقص علي قصص الحي وتاريخه الطويل وصراعه من أجل الذات، كان يحدثني عن قوم تمردوا على الواقع وقادوا ثورة على الأسياد وانتزعوا الحرية منهم واسرجعوا أرضهم الزراعية التي كانت مملوكة لهم إلى وقت قريب.
أخذني الحافظ في اليوم الثالث إلى حقول تمتد وتمتد مع السهل الطويل، سنابلُ تطاول الرجال وتختفي في فجواتها نسوة الحي، يحكي لي قصة هذه المزارع وكيف كانت توفر الحبوب لكل مناطق الوطن..
مررنا بغدير داسته الحيوانات واختلطت مياهه بفضلات المواشي صادفنا فتيات الحي يمارسن هواية الإدلاء في حفر الغدير الصغيرة، لا تصدق أن إنسانا في هذا القرن يشرب من تلك المستنقعات ولكنها الحياة أجبرتهم أن يعيشوا مع المواشي بنفس الشراب ونفس المزارع..
أغادر أحياء آدوابه في اليوم الثالث وأنا ألتفت ورائي إلى تلك الأكواخ المنسية الصامدة صمود الفلاحين الملثمين، الصارخون في صمت ينادون بأعلى صوتهم: نريد المياه، نريد الحياة، نريد أن نعيش كما يعيش إنسان هذا القرن..
مختار بابتاح