نادرا ما نسب جيل على اختلاف مناهج التحقيب الأدبي لرواية، فالجيل الأمريكي الذي عاش أزمة عام 1929 الشهيرة اقترن اسمه بها، وليس برواية لثورنتون وايلدر، وكذلك الجيل الإسباني الذي عرف بجيل عام 1927، والأجيال الأوروبية التي عاشت الحربين العالميتين وما بينهما، حيث أطلق على تلك الأجيال اسم جيل الحرب، أو ما بعدها، رغم جدارة العديد من روايات أندريه مالرو وآرنست همنغواي والبير كامو، بأن تنسب إليها أجيال تجلى مزاجها فيها، وفي ذلك الجيل الإنكليزي الذي عرف في الخمسينيات من القرن الماضي بجيل الغضب، نسبة إلى مسرحية جون أوزبورن، أنظر وراءك في غضب، وفي عالمنا العربي سمي الجيل الذي عاصر نكبة فلسطين جيل النكبة، ثم أطلق على أبنائه وأحفاده ممن عاشوا هزيمة حزيران جيل النكسة، وأذكر أنني سألت الصديق مطاع صفدي ذات يوم عن سبب اختياره «جيل القدر» عنوانا لإحدى روايتيه فقال إنه الجيل الذي حمل أعباء التحرر في ثلاثينيات القرن الماضي، وأضاف أن الزعيم الراحل عبد الناصر استخدم هذا العنوان في إحدى خطبه.
لكن ما أعنيه بجيل الكرنك، هو ذلك الجيل الذي ولد بعد الحرب العالمية الثانية، وأصبح في العشرينيات من عمره عندما صدرت رواية نجيب محفوظ الشهيرة وهي «الكرنك»، التي تحولت في ما بعد إلى فيلم سينمائي أثار ردود أفعال صاخبة، لأن الرواية هي بمثابة إدانة صريحة للدولة الأمنية ومصادرة حرية التعبير.
جيل الكرنك هو أيضا وبشكل أو بآخر جيل رواية «ثرثرة فوق النيل»، حيث الاشتباك بلغ ذروته بين الانهماك في الحراك الوطني واللامبالاة، هذا الجيل الذي أشعر بالانتماء إليه من حيث العمق وسؤال الوجود والحرية، وليس من حيث التقويم الزمني شهد أعنف أحداث النصف الثاني من القرن العشرين، كان يلثغ باسم بلاده في الخمسينيات وتمنى لو أنه يشارك في حرب السويس حتى بالبندقية البلاستيكية التي كان يلعب بها وهو يسمع عن القصف والتهجير والمقاومة الشعبية، وكان في نهاية دراسته الجامعية عام 1967 عندما وقعت الحرب، ففي الرابع من حزيران/يونيو كنت مع زملائي من مختلف الأقطار العربية في جامعة القاهرة نتهيأ لامتحان السنة الأخيرة، عندما استيقظنا على مكبرات الصوت ونداءات المتطوعين في الدفاع المدني، وتأجلت الامتحانات وأنسانا رسوبنا القومي في الحرب رسوبنا الخاص في بعض المواد.
جيل الكرنك رفض التأقلم مع الهزيمة ومحاصيلها المرة، وأدرك مبكرا أن ما هزم ليس جيشا أو وطنا بل هي الحرية، لأن عشرات الملايين من العرب شاركوا في الحرب من خلال المذياع، وبكوا أو صفقوا تبعا لبيانات لم يكن لهم أي دور في صياغة مضمونها، لهذا عوقب هذا الجيل مرارا، وتعرض للسجن والمطاردات الأمنية ولم يتنفس الصعداء إلا عام 1973 في حرب اكتوبر/تشرين الأول، عندئذ أدرك أن الهزيمة كانت ناقصة، كما كان نصر الأعداء أشد نقصانا، وأن للتاريخ وجهين وأن دوام الحال من المحال كما يقال!
جيل الكرنك شهد انعطافات جذرية في حياتنا الاجتماعية والثقافية والاقتصادية أيضا، إضافة إلى انعطافات السياسة وتحولاتها، لهذا كان الامتحان أشد عسرا من كل امتحانات الدراسة على اختلاف مراحلها، حيث رسب من رسب وعاد من منتصف الطريق من أحسّ بوعورتها وما يهجع فيها من كمائن، لكن من تشبثوا بالجمرة حتى أحرقت كتبهم قبل أصابعهم وأضاءت بما فيها من بصيص ليلا حالكا أو ليلا كله ليل، كما قال محمود درويش، شهدوا وعاشوا الانعطافة الكبرى الأخيرة قبل ستة أعوام، ربما كانت الأعجف في تاريخنا المعاصر. وكما أن الطرب استخفّ بعضهم فرقصوا في المآتم استوقف القلق آخرين قرروا أن لا يلدغوا ألف مرة من الجُحر ذاته، وتساءلوا: هل هو شفق أم غسق؟
ومنهم من استشعر أن هناك لصوص ثورات يتربصون بالتوابيت لاختطافها، مثلما اختطفوا المهود من قبل وقدموا الرشاوى للقابلات كي يخنقن الأجنّة في الأرحام، من أبناء ذلك الجيل من جاعوا ولم يأكلوا بالأثداء كالحرّة، ومنهم من رضي بالحكمة القائلة الزاد أشرفه القليل، وكانوا عصاميين إلى الحدّ الذي نحتوا فيه عكازاتهم من عظم سيقانهم وقرروا أن لا يفطروا بعد ستين عاما من الصيام على تفاحة عفنة نخرها الدود حتى ثقب قشرتها، فالحرية بالنسبة إليهم ليست لها بدائل معلّبة، والهوية لؤلؤة تحرسها محارة أقسى من الفولاذ، وما تبقى من وطن شملته الخصخصة والمحاصصة ليس مجرد شقة في ضاحية أو قبر يتدلى من أرض بلغها التصحّر وأصابها اليباب.
من تبقى من ذلك الجيل على قيد وعيه وهويته وذاكرته وبسالة إرادته لن يبدو على ملامحه لحظة رحيله أنه عاش مخدوعا، ويدرك أن أهم ميراث تركه وراءه لأبنائه وأحفاده هو عدم شعورهم بالخجل أو الاعتذار لأنهم من صُلبه، لقد كانت نسبة الرسوب في الثانوية العامة الوطنية وليس تلك التي تؤهل للدخول إلى الجامعات كارثية، والثانوية الوطنية غير الأكاديمية هي التي تؤهل للسهر على الرأي العام الذي يجري إغواؤه وتجريف وعيه على مدار اللحظة.
لقد عبر نجيب محفوظ بأمانة ومهارة عن ذلك الجيل لكنه لم يستولده، لأنه ولد من أمهات لم يكن حليبهن مشوبا بمواعظ جُحا!
نقلا عن صحيفة القدس العربي