ألكساندر جوليان كاتب سويسري معاق.. مصاب منذ الصغر بداء عصبي عضال.. تأخذه رجفة، وتنتابه رعشة، ويظل قلمُـه فياضا لا ينكسر له حرف ولا يراق له مداد. ومع تلك الإعاقة كتب رائعته "الثناء على الوهن"، وأعجوبته "الفيلسوف العاري"، فرفعه شعبه فوق أعناقه، وألبسه النياشين، وأجزله العطايا، ومنحه الجوائز، لأن ارتعاشا في الأصابع، وارتعادا في الرأس، واهتزازا في القدم، لا يساوي أي شيء مع ثبات في الفكر ورجاحة في العقل وسمو في الروح.. تذكرت هذا المبدع المعاق وأنا أسمع، مصدوما مكلوما، أن أحدهم عاب على الكاتب الشيخ ولد سيدي عبد الله أن القدر أفقده ذراعه وعوضه عنها بعديد الأذرع الخفية المخفية في ثنايا عقله الكبير.. شيء مؤسف حقا أنه، بدل النياشين والعطايا والجوائز، كما فعل السويسريون بكاتبهم العظيم، ننزل نحن إلى مستوى شتم كاتبنا وهجوه بما لا دخل له فيه وبما لا يضر بإسهاماته الأدبية الكبيرة.. مؤسف حقا أننا نفتأ ندور في دوامة من العمى الفكري والصمم الثقافي لدرجة تجعلنا نشتم بما ليس عارا ونهجو بما ليس جرما. أليس حري بنا أن نحاكم الدكتور من خلال إسهاماته ونسبح في مياه عقله لنرى صالحَـه (أو طالحه، إن وُجد) ونبتعد عن الخوض الدميم في جسمه وحركاته وهندامه؟.. أليس حري بنا أن نعلم أن "الباراستامول" و"غوغل" و"المدينة الفاضلة" جهد عقلي أولا وقبل كل شيء؟.. ألسنا مطالبين، كباقي الأمم، بتمجيد كـُتابنا وأدبائنا، لولا أنه "في البدء كانت الحيرة والضياع" كما قال الدكتور نفسه؟..
لا أظن أن شاتم الدكتور حلق مرة في سماء بعض نثرياته الجزلة ليرى بعضا من أذرعه الكثيرة. لذلك أدعوه بكل تواضع إلى الارتماء، دقيقة، تحت نوافيره الدمشقية وبُـرَكه الأندلسية ليسمع معي هذه الترنيمة الأدبية الخالدة: "من الصعب أن نجد في زمننا الرديء هذا، شاعرا مؤمنا بالتبتل في محراب القضية.. القضية ليست فقط تلك التي آمنا بها جميعا، وتساوينا في عشقها، وتزوجناها برضاها.. القضية هي أن تشعر بأنك جزء من العربة، وأنك مشارك في حمل الأسفار وحمل النفايات.. القضية هي تلك الصورة الهلامية التي تعجز عن جمع أشلائها.. فسرياليتها بعض من عظمتها.. بعض من عدة "أشياء" تجعلها، بحق، قضية".
عظيم جدا هذا الكاتب بعقله، المُــفـَـوّه بعقله، المتواضع بعقله.. كم هو محق لما قال في إحدى روائعه أن "الشعر فرَضَ جنونه على كل شيء"، وكم هو غير محق لما لم يقل ان "الركاكة فينا فرضت جنونها على كل شيء".