كنت قد كتبت مقالا في الأسبوع الماضي بعنوان: لطفا أيها الساسة الوطن أمانة! حاولت من خلاله أن أجد جوابا لسؤال ظل يراودني لفترة من الزمن بعنوان: لماذا يتخذ بعض الساسة النيل من أوطانهم مطية لبلوغ مآربهم الشخصية ؟!
وفي هذا المقال ونتيجة للأسباب نفسها وبدافع الغيرة على وطني سأشخص واقع هذه الدول الغربية التي يبدو أنها هي الأخرى ظهرت على السطح محذرة رعاياها من موريتانيا مدعية أنها غير آمنة وكأن هناك تقاطع مصالح بين الطرفين !!.
والآن لنضع هذا الكلام جانبا ولنعرض لبعض الحقائق التي غفل عنها الكثيرون بقصد أو غير قصد,
إذا رجعنا إلى الواقع العالمي الذي تشكل بعد الحرب الباردة فإننا نجد أن سقوط الإتحاد السوفياتي لم يكن يعني مجرد سقوط نظام في الحكم معين، ولا مجرد انحلال تكتل بين دول، ولا مجرد تفتت معسكر يتحدد بكونه يشكل حلفا بين دول، ضد حلف آخر يتشكل من دول أخرى، بل لقد كان سقوط الاتحاد السوفياتي يعني أيضا، وربما في الدرجة الأولى سقوط نظام اجتماعي واقتصادي وفكري، نظام كان يطرح نفسه كمشروع ضروري للمستقبل: مشروع حضاري جديد، هو ما عبر عنه بـ (النظام الاشتراكي العالمي)، وقد كان يبشر بعلاقات إنتاج جديدة، وبنظام سياسي محلي ودولي جديد، وبإيديولوجيا جديدة، بمعنى تاريخ جديد للإنسانية.
وقد دخل كما هو معروف في صراع مع النظام الرأسمالي، القائم آنذاك. وكان الصراع بين النظامين يشمل الاقتصاد والسياسة، والقيم والفكر والعلاقات الدولية... إلخ.
وبما أن هذا الصراع لم يتطور إلى صدام مسلح على غرار الحربين العالميتين، بسبب الرادع النووي لدى الطرفين، فقد اكتسى صيغة صراع حول المناطق الإستراتيجية ومواطن الثروة، وأيضا صيغة صراع إيديولوجي استعمل فيه الدين والعلم والثقافة بصورة عامة.
إن سقوط أحد طرفي هذا الصراع، كان بدون شك (انتصارا) للطرف الآخر، ولما كان المعسكر الرأسمالي هو المنتصر فإنه لم ينظر إلى هذا الانتصار على أنه انتصار من نوع خاص، فهو لم يكن نتيجة مواجهة يتحمل فيها كل طرف نسبة من الخسارة، ولا نتيجة معاناة تحمل كل طرف على التكيف مع ما جريات المعركة ونتائجها، مما كان لابد أن ينتج عنه تغيير على هذه الدرجة أو تلك في كيانهما ورؤاهما وأساليب عملهما، كلا!
لقد كان انتصار مجانيا، بدون ثمن. كان في الحقيقة إلغاء للمباراة قبل إجرائها، بسبب إنسحاب غير متوقع لإحدى الفرقين. لقد إنهار الاتحاد السوفياتي. ومعه المعسكر الشيوعي. أما المعسكر الآخر فقد بقي كما هو بكل عدته العسكرية والاقتصادية والإستراتيجية والعلمية والفكرية، وأيضا بقي في حالة تعبئة وتجنيد، ولكن بدون عدو. لقد خلت له الأرض وخلا بها، فصار وحده (يطلب الطعن والنزلاء). ولكن مع من؟ بمعنى أن أمريكا أصبحت تبحث عن عدو يحفظ لها توازنها وتأتي أحداث الحادي عشر من سبتمبر لتجد فيها أمريكا ضالتها المنشودة كذريعة لمحاربة لإسلام وان اختلفت التسميات التي تتخفي وراءها:إرهاب تشدد,اعتدال..
يرى الدكتور الراحل محمد عايد الجابري أن هذه هي المشكلة التي واجهت الولايات المتحدة الأمريكية مع منتصف الثمانينات؟ مشكلة دولة، بل معسكر من الدول، بنى اقتصاده وسياسته واستراتيجياته وثقافته ورؤاه المستقبلية على أساس أنه يواجه عدوا يتربص به، فإذا بالعدو ينسحب، بل يختفي ليظهر وراء خصمه يطلب الإنخراط في نمط حياته ليصير جزءا منه وحليفا له. مشكلة ليست سهلة، مشكلة (الأنا) الذي لا يعرف كيف يتعرف على نفسه إلا من خلال (آخر) يواجهه، فإذا هو يفقد فجأة (الآخر) الذي يتحدد به، متسائلا: ماذا يمكن أن ننتظر من هذا الأنا؟. هل ننتظر منه أن يفكك ذاته ويعيد تركيبه؟ كيف؟ وكيانه جميعه موجه ككل وكأجزاء، إلى مضادة كيان (الآخر) ككل وكأجزاء. ويجب على سؤاله بقوله إن هذه هي القضية التي طرحت نفسها على (صانعي القرار) في الولايات المتحدة الأمريكية، أولئك الذين يعملون في مالا يحصى من مكاتب الدراسات الإستراتيجية، وهي مكاتب أنشأت في ظروف الحرب الباردة، ومهمتها مراقبة الخصم واقتراح خطط ووسائل لمواجهته، مبينا: أن كلمة (إستراتيجية) مصطلح حربي فالمتخصص في الدراسات الإستراتيجية لا يستطيع التفكير إلا في إطار المواجهة بين الطرفين، فإذا انسحب أحد الطرفين كان عليه أن يضع مكانه ما يقوم مقامه في الحال أو في الإستقبال، وإلا إنقطع به حبل التفكير. إن المحلل الاستراتيجي كلاعب الشطرنج، لا يستطيع اللعب وحده! ويحلل الجابري في مقاله المطول مقالة لباري بوزان الصحفي المرموق وأستاذ الدراسات الإستراتيجية بأمريكا الموسوم: السياسة الواقعية الجديدة. مشيرا إلى أن مقالة هنتغتون الشهيرة (صدام الحضارات) ما هي إلا إعادة إنتاج بشكل مفصل وبأسلوب استفزازي للأفكار نفسها التي عبر عنها باري بوزان بكثير من الهدوء والتركيز...
ويخلص الكاتب إلى أن التقسيم التقليدي المعروف: المعسكر الرأسمالي (العالم الأول) المعسكر الشيوعي (العالم الثاني)، مجموعة دول عدم الإنحياز (العالم الثالث) فقد معناه بعد أن لم يعد هناك عالم ثاني في مقابل العالم الأول. فالعالم (الثالث) لم يكن عالما واحدا بل كان يتكون من مجموعة من البلدان لم يكن يجمعها كعالم إلا كونها لا تنتمي لا إلى العالم الأول ولا إلى الثاني. وهذا ما يقودنا إلى تقسيم جديد أصبح فيه العالم مركزا وأطرافا، حيث أن التصنيف الذي درج العالم عليه منذ الحرب العالمية الثانية، قد فقد معناه، بعد انهيار الكتلة الشيوعية، وبالتالي لابد من هذا التصنيف الجديد لفهم الوضع العالمي الجديد، وتفصيل هذا التقسيم يتجلى في أن المركز (هو كتلة رئيسية من الاقتصاديات الرأسمالية المسيطرة على العالم)، وأما الأطراف فهي مجموعة من الدول الأضعف من النواحي الصناعية والمالية والسياسية تتحرك ضمن نمط من العلاقات التي ينسجها المركز في المقام الأول)).
وبما أن أمريكا لا تفهم في لعبة الشطرنج فقد استعاضت عنها بلعبة البسبول تلك اللعبة الراسخة على نحو عميق في الروح الأمريكية.
وقد رأينا من خلال القنوات الفضائية ووسائل الإعلام المقروءة والمكتوبة كيف أن أمريكا لم تفلح في لعبة البسبول هذه, التي حاولت تطبيقها على أراضى لا تعرفها, وهذا ما شاهدناه بالكلمة والصورة كأبشع جريمة ترتكب بحق الإنسانية عبر تاريخها الطويل, في العراق، وأفغانستان، وفلسطين، والصومال، ولبنان....وسوريا ...وليبيا...
في إطار مشروع الشرق الأوسط الكبير،أو الجديد, الذي يسوق تحت شعار التحديث والإصلاح، الديمقراطي والاجتماعي والتربوي واللغوي، للانخراط فيه كرها طبقا لنظريات هنتغون وفوكا ياما في صدام الحضارات ونهاية التاريخ، تحت وطأة الضربات الاستباقية بالمطرقة الثقيلة، كما في تورابورا والفلوجة، وإرهاب فضائح التعذيب في غوانتناموا وأبي غريب…
وإذا كانت أمريكا لم تفصح للعالم عن هدفها من وراء هذه الحروب, فان الثوب الذي ألبسته لتلك الحروب باسم الحرية والديمقراطية بات معروفا لغير العميان يقول الشاعر:
ثوب الرياء يشف عما تحته... فإذا التحفت به فانك عاري
وهو ما تشرحه وزيرة الخارجية السابقة مادلين أولبرايت في كتابها:(الجبروت والجبار), حيث تتناول في القسم الأول من الكتاب الموقف الأمريكي في العالم والدور الذي يلعبه الدين والأخلاق في صياغة السياسة الخارجية الأمريكية..
في ما يتطرق القسم الثاني إلى العلاقات المضطربة بين المجتمعات الإسلامية والغرب..
ثم تعرض المؤلفة أفكارها في صياغة السياسة الخارجية الأمريكية والدين, من أجل تحديد نقطة التقاء الاثنين السياسة العملية مع طبيعة الدين.
وتحت عنون:(أمريكا في عيون الناس) تتساءل المؤلفة أولبرايت كيف يمكن بأحسن الطرق أن ندير الأحداث في عالم يضم العديد من الأديان وتتناقض فيه نظم المعتقدات في نقاط رئيسية تناقضا تاما كيف نتعامل مع التهديد الذي يمثله المتطرفون الذين يحاولون باسم الرب فرض إرادتهم على الآخرين.
هذه الطبيعة بنظر المؤلفة ترجع إلى الأزمنة الوثنية وليست جديدة, ولكن الجديد هو مقدار الدمار الذي يمكن يلحقه العنف, لأن الحروب الدينية التي كانت تخاض بالسيوف والدروع والمنجنيق شيء, والحروب التي تخاض بالمتفجرات الشديدة شيء آخر.
وتعتقد المؤلفة أن مؤسسي أمريكا كانوا يدركون أنهم يبينون شيئا جديدا غير عادي, لنظام حكم قائم على حقوق الأفراد وواجباتهم, وذالك هو المفهوم الذي أثر في التفكير السياسي في العالم.
رأى الأمريكيون أنفسهم وهم يؤسسون مجتمعا متفوقا في التنظيم والأخلاق على الارستقراطيات المضمحلة في أوروبا, وقارنوا أنفسهم بدون تحفظ بالإسرائيليين القدامى
كشعب اختارته العناية الإلهية للمشاركة في وضع خطة إلهية.[وهذا ربما يفسر ادعاءات بوش المتكررة أنه يطبق مشيئة الرب...]
وخلال عقود التوسع والازدهار الاقتصادي والإخفاقات الصاخبة تكرس اعتقاد أن الله ينير مسار أمريكا ومصيرها, وبقى هذا الاعتقاد منتشرا, وفد اقترن القرن العشرون وتجاوزت قدرة البلد وطموحاته الحدود الأمريكية المستقرة الآن إلى الأماكن البعيدة في المحيط الهدى.
وما ميل القادة إلى تمويه مصالحهم الضيقة بخطاب عن القيم العامة إلا انعكاس لرغباتهم قي الظهور بمظهر أفضل مما هم عليه..)
ويبدو أن الكابتن بوش وفريقه( المحافظون الجدد) كلفهم هذا المظهر الكثير حيث أنهم غيروا من مدلولات الكلام نتيجة لما تضفيه سياستهم من ممارسات أصبحت عن طريقها كلمة (محافظ) في ذهن السامع ترمز للقتل والخراب..والفضائح التي يندى لها الجبين, والتدخل في شؤون الدول الأخرى.. وهي معان جديدة, تختلف عما كانت عليه في الأصل. وهم في ذالك يسيرون على درب سار عليه الاستعمار والنازية..فكلمة(استعمار) مشتقة من (عمًر, يُعمًر) وهي في الأصل تعنى البناء والتعمير...غير أن الممارسات التي ارتبطت بالوجود الأجنبي في البلدان المستعمرة, وما لحق بهذه البلدان من ضعف ومهانة جعلت من كلمة استعمار مرادفة لكلمة خراب, واستغلال وظلم.أي أنها أصبحت توحي لأول وهلة بإحساسات لدى السامع تختلف اختلافا كليا عن معناها الاشتقاقي الذي يعنى البناء والتعمير. ونفس المثال ينطبق على كلمة (نازي) ومعناها القومية والاشتراكية في اللغة الألمانية, غير أن ارتباط هذا اللفظ بالممارسات السياسية للحزب النازي الهتلري الألماني..وما نتج عنها من حرب ودمار وخراب للعالم, غير كلمة (نازي) في الواقع تغييرا كليا حيث أصبحت تعنى العنصرية والطغيان والاستبداد.
ومع هذا كله نراهم يرحلون عن هذه الملاعب التي ابتدعوها وفى جعبتهم الكثير من الهزائم, إذ أخفقوا عدة مرات,
وتأسيسا على هذا الكلام نرى أن أمريكا بات وجودها يعتمد على خلق عدو ولا غرابة إذا كانت كل مرة تحذر سفاراتها في الدول المعتمدة فيها عن هجمات إرهابية وشيكة!!
ولكن هناك حقائق ربما تناستها أمريكا وهي تنقل السفير الأمريكي لاري اندريه نفسه بدون حراس في أحياء العاصمة نواكشوط وفي ضواحيها ليلا ونهارا ..
فلم يسلم منه أي مكان فتراه تارة في حفل عرس شعبي بزي تقليدي موريتاني وتارة يغسل الأواني ويأكل المشوي في حي شعبي وتارة يشجع المنتخب الوطني ومرة يجتمع بالأحزاب السياسية... بعيدا عن أمنه الشخصي وعن مستلزمات لبروتوكول...
وقد جمع الكاتب المقتدر محمد لمين ولد الفاضل هذه المشاهد في ألبوم نشره في صفحته الشخصية على الفيس بوك
وعلق عليه بقوله:: "لا يكاد يمر يوم إلا وأطل علينا السفير الأميركي من مكان لم نكن نتوقع أن يظهر فيه.)
كما خص هذه الأحداث المشبوهة بمقال بعنوان: شكرا معالي السفير الأمريكي..!!
فبعد أن عدد تدخلاته وتغلغله في مفاصل الدولة والمجتمع يختم مقاله الشيق بقوله:
يمكن لكل أبناء هذا البلد أن ينخدعوا بأعمالك الطيبة التي تقوم بها، ولكن كاتب هذه السطور لن ينخدع بتلك الأعمال أبدا ...هذا ما يقوله ماضيك في السودان حيث ظهر أن كل أعمالك الخيرية هناك لم تكن من أجل السودان، بل كانت على العكس من ذلك، فقد كانت من أجل إحداث المزيد من الخراب والفتن بهذا البلد الشقيق).
ولعل الكاتب أدرك بثاقب فكره مالهذا السفير من مكر وخداع أستطاع بهما أن يكشر عن أنيابه ويعلنها في بيان على صفحة السفارة الأمريكية محذرا رعاياه من التنقل في موريتانيا...
ويبقى سؤال هل يعيد هذا السفير سيناريو السودان في موريتانيا؟ أم أنه يخطط لماهو أسوء؟!
وتأت بريطانيا بعد أمريكا لتحذر رعاياها بنفس المنطق الأمريكي لأنها تأتمر بأمرها وسياستهما في المنطقة متطابقة وكأنهما وجهان لعملة واحدة...
ولكن من غير المعقول أن تلتحق بهما دولة صديقة كفرنسا..لتبني ادعائها بمسألة غير مقنعة مفادها أن سيدة فرنسية ادعت تعرضها للاغتصاب بنواكشوط لكنها لم تصب بأذى...
وهي حوادث تلصص تحدث في جميع أنحاء العالم وعادة لاتصدر هذه الدول بيانات بخصوص هذه الحالات البسيطة فأحرى أن تعطيها زخم بالحجم الذي أعطتها فرنسا...!!
والذي يدعوا للشك كون هذه السيدة لم تثبت تعرضها للاغتصاب لدى المحاكم الموريتانية!!!
غير أن المراقبين في موريتانيا لم يلاحظوا ولله الحمد في السنوات الأخيرة أي حالة إرهابية ولم تفكك فيها أي خلية إرهابية وليست بها خلايا نائمة للإرهاب عكس مايجري في دول الجوار..
فماذا يريد الغرب من الترويج لهذه الشائعات؟ وماهي مصلحته في زعزعة الأمن الموريتاني؟!
المرابط ولد محمد لخديم