لقد سبق لي أن كتبت مقالين عن تونس بعد ثورة 14 يناير 2011، الأول كان بعد انتخابات أكتوبر 2011 "انتصار النهضة والرسائل الثلاث" وهي رسائل للعالم والعلمانيين وللإسلاميين، ويبدو أن أغلبها أو الغالب في كل منها لم يصل، والثاني عن " الدرس التونسي" بعد تنصيب المجلس التأسيسي وحواراته وتشكيل الحكومة حينها وائتلافيتها، ولم أخف في المقالين أنني رأيت في تونس وشعبها ونهضتها وتميزها ما يستحق عميق التوقف ويستدعي كثير الاهتمام ..
واليوم بعد انتخابات 26 أكتوبر 2014 التي بدأت ملامحها تتضح أجدني متحمسا للكتابة عن تونس لأنها ظلت متميزة وظل أهلها متميزين في محيط لا يساعد وإقليم لا يعين .. ولنعد للبداية ..
1. دخلت البلاد أزمات شديدة خلال المرحلة الماضية واختلفت الحكومة والمعارضة في عديد المسائل وبشكل شديد أحيانا، وتظاهر الناس ونُظمت الإضرابات .. بل وحدثت اغتيالات صادمة كان أبرزها اغتيال القياديين اليساري شكري بلعيد والقومي محمد البراهمي، وفي كل هذه المحطات ورغم التوتر في بعضها ورغم الأجواء الإقليمية الملبدة التي يبدو أنها أغرت البعض كان أهل السياسة والرأي يتفاوضون ويتوصلون لحلول تؤجل أو تهدئ أو توجد مخرجاً، وحين اشتدت الأحوال تداعى أغلب الأطراف لحوار وطني بدا صعبا وغير ممكن النجاح عند كثيرين دعت له أربع منظمات فاعلة في الحياة المدنية والنقابية في تونس وطالت في هذا الحوار اللقاءات وفي أكثر من مرة يظن الحادبون أنه فشل أو سيفشل وكثرت المناورات ـ وهو أمر مفهوم في مثل هذه الظروف ـ وأخيرا خرج الحوار بنتائج لم ترضي أحدا ولكن قبل بها أهم الأطراف وسكت البعض سكوت الرضى وعارضها البعض متعاملا مع مخرجاتها، وانتظمت من بعد ذلك الأمور إلى حد كبير حتى أجاز القوم دستورهم وأقروا قانونهم الانتخابي وشكلوا حكومة الكفاءات ودخلوا أجواء المنافسات ثم الحملات فالانتخابات.
2. بعد مداولات عسيرة أجاز المجلس الوطني التأسيسي في تونس الدستور الجديد للجمهورية، وقعت خلافات وأثيرت إشكالات، طرحت قضايا من الحجم المحرج فتجاوزوها بالتفاهمات والتوافقات والتنازلات، وأخيرا وقع المرزوقي والعريض وبن جعفر دستور الجمهورية التونسية .. والحق يقال إن تونس أهدت للعالم دستورا متميزاً ومن قرأه وأمعن النظر فيه سيتأكد من ذلك:
في توطئة هذا الدستور التي اعتبرت بحكم الفصل (145) جزء لا يتجزأ منه كان هناك اعتزاز بالاستقلال ونضالاته وبثورة الحرية والكرامة (ثورة 17 ديسمبر 2010، 14 جانفي 2011) التي نص على أن الدستور هو تحقيق لأهدافها .. وكان هناك تمسك بتعاليم الإسلام ومقاصده المتسمة بالتفتح والاعتدال وبالقيم الإنسانية والرصيد الحضاري للحركة الإصلاحية .. وكان هناك أن هذا الدستور مؤسس لنظام جمهوري ديمقراطي تشاركي في إطار دولة مدنية.
أما فصول هذا الدستور فقد بدأت بالأول والثاني الذين لا يجوز تعديلهما، أما الأول ففيه "تونس دولة حرة مستقلة ذات سيادة، الإسلام دينها، والعربية لغتها، والجمهورية نظامها"، وفي الثاني: "تونس دولة مدنية، تقوم على المواطنة وإرادة الشعب وعلوية القانون".
وتتواصل الفصول راسمة صورة دولة ديمقراطية راقية تنطلق من الأصول والقيم وتستجيب لمقتضيات الطابع المدني الحديث .. وفي ثنائية متكاملة يأتي الفصل السادس جامعا بين رعاية الدين من ناحية وكفالة حرية المعتقد والضمير وممارسة الشعائر من ناحية أخرى وبين حماية المقدسات ومنع النيل منها من ناحية ومنع دعوات التكفير والتحريض على الكراهية والعنف من ناحية أخرى.
وينص الفصل العاشر ـ على غير العادة ـ على حسن التصرف في المال العمومي والعمل على منع الفساد، ويلزم الفصل الحادي عشر كل المسؤولين: الرئيس ورئيس الحكومة وأعضاء مجلس الشعب وأعضاء الهيئات الدستورية أو أي وظيفة أخرى على التصريح بالممتلكات ..
ويلزم الفصل 13 بعرض عقود الاستثمار والاتفاقيات التي تبرم في شأنها على نواب الشعب لموافقتهم ..
ويصرح الفصل 15 بأن مهمة الإدارة خدمة المواطن والصالح العام ويلزمها بالحياد والشفافية والنزاهة والنجاعة والمساءلة ..
ويأتي الفصل 18 ليحدد مهمة الجيش الذي وصفه بالجمهوري ويلزمه بالحياد التام ونفس الشيء للأمن الوطني في الفصل 19 ..
ويتميز باب الحقوق والحريات في هذا الدستور بالوضوح والتفصيل ناصا على كل المطلوب وحاجرا في الفصل 25 على سحب الجنسية ومصرحا في الفصل 26 بحق اللجوء السياسي ومنع تسليم اللاجئين السياسيين، ومؤكدا في الفصل 37 "حرية الاجتماع والتظاهر السلمي مضمونة"، ثم يكمل الصورة بالحق في الصحة والتعليم والخدمات، ويجلي الصورة عن حقوق المرأة في الفصل 46 ولا ينسى الأطفال وأهل الإعاقة، وفي الفصل 49 يستدرك ويقيد خوفا مما هو معروف في عالم الاستبداد وعند محترفي الإلتفاف: "يحدد القانون الضوابط المتعلقة بالحقوق والحريات المضمونة بهذا الدستور وممارستها بما لا ينال من جوهرها".
ويختم هذا الفصل بالقول: " لا يجوز لأي تعديل أن ينال من مكتسبات حقوق الإنسان وحرياته والمضمونة في هذا الدستور".
وللخروج على ما هو متعود ينص الدستور التونسي في الفصل (60) على أهمية المعارضة وحقوقها ملزماً بإسناد رئاسة لجنة المالية في مجلس نواب الشعب إليها ومعطيا لها حق تكوين لجنة تحقيق كل سنة ورئاستها ..
وخوفا من أي نوع من التحايل على مأمورية الرئاسة في دورتين يقول الدستور في فصله (75): "... ولا يجوز تولي رئاسة الجمهورية لأكثر من دورتين كاملتين، متصلتين أو منفصلتين، وفي حالة الاستقالة تعتبر تلك المدة مدة رئاسة كاملة ولا يجوز لأي تعديل أن ينال من عدد الدورات الرئاسية ومددها بالزيادة".
وحتى رئيس الجمهورية بوب الدستور على إمكانية المبادرة بإعفائه من قبل مجلس الشعب في الفصل (88)، وفي باب كامل يرسم الدستور التونسي الجديد صورة القضاء المستقل المطلوب وأفاض في ضمانات ذلك وضمانات القضاة وموضوع المحاكم مدنية كانت أو عسكربة.
وأعطى للهيئات الدستورية التي تضمن حيادية واستقلال كل الجوانب التي لا تحتمل الطرفية وسماها في الفصول من 125 إلى 130 وجميعها تنتخب من قبل مجلس الشعب بأغلبية معززة وهي:
[-] الهيئة العليا للانتخابات
- هيئة الاتصال السمعي البصري
- هيئة حقوق الإنسان
- هيئة التنمية المستدامة وحقوق الأجيال القادمة
- هيئة الحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد
ثم خصص الفصول اللاحقة للامركزية وللمجالس الجهوية والبلدية التي تنتخب ولها صلاحيات ولها يلزم بتوفير الإمكانيات ..
ويأتي الفصل (144) ليلزم رئيس مجلس نواب الشعب بعرض أي مبادرة تعديل للدستور على المحكمة الدستورية لإبداء الرأي في كونها لا تتعلق بما لا يجوز تعديله وحتى لا يتصرف معرقل في مجال العدالة الانتقالية تنص الفقرة الأخيرة من الفصل (148) "تلتزم الدولة بتطبيق منظومة العدالة والانتقالية في جميع مجالاتها والمدة الزمنية المحددة بالتشريع المتعلق بها؛ ولا يقبل في هذا السياق الدفع بعدم مرجعية القوانين أو وجود عفو سابق أو بحجية القضاء أو بسقوط الجريمة والعقاب بمرور الزمن".
3. رغم أن البعض سيعتبر هذا الكلام انحيازا ـ وهو كذلك دون شك ـ ولكنه أيضاً إنصاف واعتراف بالفضل لأهله .. لقد كانت حركة النهضة متميزة في هذا المسار دون أن نغمط كثيرين حقهم خصوصا ذلك الرباعي الذي رعى الحوار وبذل جهودا واضحة للتقريب والتوافق .. نعم كانت النهضة متميزة لأنها من البداية قررت أن تكون تونس أولا وأكدت أن مصلحة التجربة أهم من مصلحة الحركة وكما قال رئيسها الشيخ الراشد راشد الغنوشي يوما قبل الانتخابات أنهم حددوا أهدافهم أن تنجح الانتخابات وينجح المسار ثم بعد ذلك أن تنجح وتفوز النهضة ..
لقد انتصرت النهضة انتصاراً كبيرا في 23 أكتوبر 2011 ومع ذلك حالفت حزبين أصغر منها وتولى أحدهما رئاسة الدولة والآخر رئاسة البرلمان، شكلت الحكومة وفوراً وُضعت العراقيل وتكاثرت الاحتجاجات وأريد للتجربة أن تسقط قبل أن تبدأ ..
رغم أن للبلد سلطة وبرلمانا وحكومة قبلت النهضة الدخول في الحوار الوطني ووقعت على ورقته ـ رغم غضب شبابها وشماتة خصومها ـ ، قيل إنه لإنجاح المسار وخوفا من انحياز الحكومة لا بد أن تكون هذه الأخيرة محايدة غير منتمية فقبلت النهضة وخرجت رغم إغراء السلطة التي وصلتها بأصوات الناس .. طرح الكثيرون أن كل ثورة لابد أن تعزل أعداءها ورموز النظام المثار عليه واقترحوا قانونا للعزل السياسي فقالت النهضة إن ذلك سيوتر الساحة ويفتح الأبواب للانتقام والأولى أن يترك للشعب اختياره يزكي من يزكي ويعزل من يعزل فاسقط القانون لأن نجاح التجربة أولى ... حين نجحت النهضة في 2011 تعالت الأصوات بالتهديد والوعيد وحين حكمت وضعت الدواليب وقيل إن الشعب تم استغفاله، تحرك الإرهاب وضرب في كل مكان، تحركت النقابات ونزل البعض إلى الشارع، ودخلت على الخط جهات خارجية لا تريد للربيع أن يزهر في أي مكان خصوصا إذا كانت مخرجاته إسلامية التوجه ..
أما حين أفرزت الانتخابات الأخيرة (أكتوبر 2014) عن تقدم حركة نداء تونس بادر الشيخ راشد الغنوشي إلى تهنئة السبسي وأوضح الناطق باسم النهضة العذاري أنهم لن يقلدوا غيرهم وسيكونون قوة بناءة ومسؤولة بعيدا عن أساليب العرقلة والمناكفة ..
وفي مستوى آخر يبرز معنى آخر أننا معاشر الإسلاميين في السياسة حزب سياسي قد يكسب وهو ما نسعى إليه ونفضله قطعا وقد نخسر وعلينا الاستعداد لذلك فهو ممكن ووارد، وفي بعض الأحيان نخسر مؤيدين وأنصارا لا بسبب التآمر وشراء الذمم ـ وهما موجودان في عديد الحالات ـ ولكن بسبب ضعف أدائنا أو محدودية الثقة في كفاءتنا .
خلاصة الأمر أن النهضة لعبت الدور الأبرز والأساسي في إنجاح التجربة، فعلت ذلك بوضوح رؤيتها ومسؤولية سلوكها ومرونة خطواتها، فعلت ذلك بصدقيتها وديمقراطيتها وبعد نظرها .. الخلاصة كما عبر د. عبد الوهاب الأفندي "أن سر النجاح التونسي هو رجل اسمه "راشد الغنوشي"، وبطبيعة الحال حركة اسمها حركة النهضة، لا يعني ذلك أن النهضة لم ترتكب أخطاء وأنها استسهلت في الأحيان مسؤولية الحكم في واقع معقد بمحيطه، صعب بمطالب الناس فيه، ولكنني أجزم أن أخطاء النهضة وما يقال عن ضعف كفاءة بعض من قدمت للمسؤولية العامة لا يقارب النجاح والمسؤولية والتألق الذي ظهرت به وشرفت بلدها وإخوانها ومحبيها في كل مكان ..
4. سواء شاركت حركة النهضة في الحكومة ـ وهو استحقاق لمصلحة تونس وتأمين المرحلة القادمة سياسيا وتنمويا ـ أو أصبحت في موقع المعارضة ـ وهو ما تحسنه وإشاراتها الأولية تؤكد مسؤولية ورشدا يحتاجها هذا الموقع في المرحلة القادمة ..
سواء وقع هذا أو ذاك فإن وصول التجربة التونسية لهذه المرحلة نجاح متميز في واقع انقلب فيه هناك واقتتل هنالك وساد الوجوم والالتباس في مواقع أخرى، ولن يتردد المنصفون في القول أن هذا النجاح يسجل جوهره في رصيد حركة النهضة الرائد وشيخها الوقور الراشد، ولذلك صدق أخي الأستاذ الصحفي اللامع أحمدو ولد الوديعه حين لخص المشهد بعد انتخابات أكتوبر 2014 قائلاً: "نجحت تونس وصمدت الثورة وتألقت النهضة".
5. لا يمكن لهذا الحديث أن يختتم دون ذكر جيش تونس والظاهر لنا معشر المراقبين من بعيد أن إغراءات السلطة لم تستهويه .. سقط ابن علي وارتبك الناس وكانت السلطة في الشارع فلم يأخذها .. تأزمت الأمور وأشار إليه البعض وصرح البعض الآخر بل قيل له إن لك في جيش مصر النموذج والمثال فتمنع وظل محافظا على موقعه، عمل هذا في وقت خربت فيه قيادة الجيش المصري تجربة أكبر بلد عربي وأكثره تأثيرا فتأزم الاقتصاد وانخرم الأمن وضويقت الحريات وضاعت الحقوق ..
• تحية لتونس وتحية لشعبها وتحية لقواها الحية وتحية للرباعي الراعي للحوار وتحية كبيرة لحركة النهضة ورائدها المفكر الشيخ راشد الغنوشي ..
بارك الله فيكم وشكراً لكم على هذا الدرس.