في شهر نيسان (أبريل) من العام 1982، قُتل الدبلوماسيّ الإسرائيليّ، يعقوف بار سيمان-طوف، في العاصمة الفرنسيّة باريس، بعد أنْ أطلقت امرأة النار عليه. تل أبيب اتهمّت الفلسطينيين بتنفيذ العملية وزعمت، كما أشارت الصحف العبريّة آنذاك، أنّ عملية الاغتيال هي جزءٌ من هجومٍ مُخططٍ لمنظمة التحرير الفلسطينيّة.
الرئيس الفرنسيّ في ذلك الوقت، فرانسوا ميتران، قالت صحيفة (معاريف) العبريّة، في عنوانٍ كبيرٍ على صدر صفحتها الأولى، أصدر الأوامر للقوّات الأمنيّة وللمخابرات بمُلاحقة المُخططين والفاعلين، وبطبيعة الحال، دخلت إسرائيل في حالةٍ من الهستيريا، بسبب العمليّة، وبدأت أجهزة مخابراتها، بالعمل على اعتقال أوْ اغتيال مُنفذّة العمليّة.
حكمت عليها محكمةً فرنسيّةً غيابيًا بالسجن المؤبّد، وعادت إلى لبنان، حيث كانت تتنقّل بحذرٍ في مخيمات اللجوء الفلسطينيّ.
اليوم، وبعد مرور أكثر من 32 عامًا، يُمكن القول والفصل والجزم أيضًا إنّ الفدائيّة التي قامت بتنفيذ عملية الاغتيال في قلب عاصمة الأضواء، رحلت من هذه الدنيا الفانية، دون أنْ تتمكّن المخابرات الإسرائيليّة والغربيّة النيل منها. ماتت بعيدةً عن الضوضاء والأضواء، رحلت بصمتٍ وبهدوءٍ. إنّها اللبنانيّة الثوريّة جاكلين أسبر (57 عامًا)، والتي عُرفت عالميًا باسمها الحركيّ “ريما”.
وُلدت جاكلين اسبر في العام 1959 ببلدة “جبرايل عكار”، وتُعتبر واحدة من مؤسسي الفصائل المسلحّة الثوريّة اللبنانيّة التي شاركت بعملياتٍ نوعيّةٍ ضدّ أهدافٍ إسرائيليّةٍ وأمريكيّةٍ في العالم إلى جانب رفقاء لها في الفصائل، خاصّةً عميد الأسرى في العالم جورج إبراهيم عبد الله الذي ما زال يقبع في سجنٍ فرنسيٍّ حتى اليوم.
ووفقًا للمواد الشحيحة المُتوفرّة عن اسبر، فإنّها انطلقت من بلدتها لتنضّم فيما بعد إلى صفوف الثوريين، وخصوصًا أنّها آمنت بقضية فلسطين كقضيّةٍ مركزيّةٍ لا يُمكن أنْ تتحرر إلّا بالقوة، إذْ لا يفل الحديد إلّا الحديد ومواجهة النار بالنار.
كان شعارها “وراء العدو في كلّ مكانٍ”، وهو الشعار الذي وضعه الشهيد الدكتور وديع حدّاد، من مؤسسي الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين. وفي هذه العُجالة يُشار إلى أنّه في كتابٍ للصحافيّ الإسرائيليّ أهارون كلاين، جاء أنّ الدولة العبريّة قررت تصفية حدّاد في إعقاب تدبيره اختطاف طائرة “اير فرانس″ إلى عنتيبي في أوغندا في عام 1976. وبحسبه، كان حدّدا مسؤولاً عن سلسلة من العمليات الفدائية، مضيفًا أنّه كان شغوفًا بالشوكولاتة البلجيكيّة، التي كان يصعب الحصول عليها في بغداد مقر إقامته آنذاك، فقام خبراء الموساد بإدخال مادّة سامّة بيولوجية تعمل ببطء إلى كمية من الشوكولاتة البلجيكيّة وأرسلوها إلى حداد بواسطة عميلٍ فلسطينيٍّ لدى عودة هذا العميل من أوروبا إلى العراق.
وبعد أنْ تناول حداد هذه الشوكولاتة تدهورت حالته الصحيّة ممّا أدى في نهاية المطاف إلى وفاته في مستشفى في ألمانيا الشرقية عام 1978. وبذلك يُضاف حدّاد إلى قائمة التصفيات والاغتيالات التي قام بها الموساد الإسرائيليّ ضدّ كوادر وقادة الثورة الفلسطينيّة في الخارج.
اسبر ومنذ قيامها بعملية اغتيال الدبلوماسيّ الإسرائيليّ، أصبحت ملاحقةً من أجهزة الموساد والانتربول الدوليّ، وعاشت بعيدًا عن الضوضاء وبقيت متوارية ما بين بيروت وبلدتها جبرايل إلى أنْ عُثر عليها مساء الأحد الماضي جثةً هامدةً في منزلها الكائن في مسقط رأسها جبرايل ـ عكار.
وجاء اكتشاف الجثة اثر محاولات عديدة من قريبة لها أجرت اتصالات هاتفيّة معها دون أنْ تلقى الجواب على مدى 24 ساعة متواصلة، رغم علمها أنّها في بيتها، وحين قلقت عليها اقتحمت البيت لتجدها متوفاة. وأجرى الطبيب الشرعيّ فحصًا أكّد فيه على أّنها سبب الوفاة كان أزمةً قلبّيةً.
ولم يكُن لافتًا بالمرّة أنّ الإعلام الإسرائيليّ، المقروء، المسموع والمرئيّ، لم يتطرّق إلى وفاة اسبر، إذْ أنّه من الجائز أنّ رحيلها بصورةٍ طبيعيّةٍ، دون أنْ يتمكّن الموساد (الاستخبارات الخارجيّة) من اعتقالها أوْ اغتيالها، يُعتبر إخفاقًا لهذا الجهاز، أوْ ربمّا يُعتبر أخفاقًا.
حملت اسبر قضية فلسطين حتى الممات، وتمّ تشييع جثمانها إلى مثواه الأخير، يوم الاثنين الماضي بحضور أقاربها وقادة من الحزب السوريّ القوميّ الاجتماعيّ، وأيضًا بمشاركة ممثلين وكوادر عن الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين.
رحلت اسبر، ولكنّ رفيقها جورج عبد الله ما زال يقبع في السجون الفرنسيّة. وكانت الإدارة القضائيّة الفرنسيّة المتخصصة في تنفيذ الأحكام قد أصدرت قرارًا بالموافقة على إطلاق سراحه، في تشرين الثاني (نوفمبر) 2003، إلّا أنّ وزارة العدل عطّلت ذلك.
زهير أندراوس