ذهبت في الصباح كعادتي إلى العاصمة (مدينة 3) قرب مجمع كلينيك، وبينما أنا ذاهب إلى الحالة المدنية (دار الكتاب سابقا) في عهد الرئيس معاوية ولد سيدي أحمد ولد الطايع.
وقبل الوصول إليها بأمتار معدودة .. فاجأتني ساحة كبيرة .. إنها نفس الساحة التي كانت فيها المدرسة المعروفة (مدرسة العدالة) بالعاصمة.
وحينها قلت في نفسي لقد دمروها هي الأخرى.. بعد أن دمروا الأمل في النفوس .. وطموح هذا الشعب الأبي .. الذي يطمح لتعليم مزدهر ودولة ترعى شؤون أبنائها رعاية حقيقية لا تهدف إلى اكتساب المال العام على أعناق أفراد هذا الشعب من الأجيال الصاعدة. والسؤال المطروح : لماذا لا يدمرون بنايات هذه الثكنات العسكرية الموجودة في أماكن استراتيجية هي الأخرى قد تصلح للتجارة أو أماكن للنجارة أو يجعلونها في أماكن أخرى في ضواحي المدينة من أجل تأمين المواطن سواء كان في القمة أو القاعدة ..!
لقد دمروا أو باعوا على الأصح تلك الذكريات البريئة ونحن صغار .. تلاميذ ندرس في تلك الأقسام بحثا عن العلم .. وكأننا في دولة تحتاج إلى أبناء بررة ليرفعوا من شأنها لا من شؤونهم الخاصة .. ولا من شؤون الخزينة المريبة..! لا ننسى تلك اللحظات التي كان .. معلمنا والمدعو :
– الخليفة ولد محمد الخليفة – أطال الله في عمره وهو واقف أمامنا مبتسما مفتخرا وهو يقول : أنتم محظوظون لأنكم تدرسون في مدرسة (العدالة) ويضيف لأنها سميت بهذا الإسم المتميز .. لأن الجميع يطمح إليها ويبحث عنها .. كانت العدالة بالنسبة لنا مطلبا ملحا لبناء دولة القانون أي الجمهورية الإسلامية الموريتانية .. وكنا نكتبها على الدفاتر بخط عريض قد يكون أعوج في بعض الأحيان ونحن ننظر إليه .. لكن في داخلنا .. هو خط مستقيم لبناء دولة يتساوى فيها الجميع كل حسب مسؤوليته وعمله .. سواء كان معلما أو صاحب ورشة .. أو مديرا أو وزيرا …!
وهكذا نجد أنفسنا أمام مسألة ترتبط بتعاقب الأجيال ونظرة كل جيل إلى آخر ليبرز دور الفكر ونشره في إعداد الإنسان لمواجهة الحياة، ويختلف اهتمام الأجيال في المسائل العامة والخاصة باختلاف الظروف والأزمان وأنماط التفكير، فالفكر أكبر محدد للشخصية الإنسانية ونمط السلوك الذي يسلكه الفرد في علاقته بذاته وبالآخرين وبالمحيط الذي يعيش فيه قاصرا أم راشدا ويتكون الإنسان فكريا عبر رحلة طويلة تبدأ من الطفولة وتستمر باستمرار الحياة.. وتسهم فيها مؤسسات عديدة كالأسرة والمدرسة.
وهنا أرجع إلى مدرستي .. إلى تلك الذكريات ..إلى أيام الصبا .. إلى ما قبل ذلك في بداية الثمانينات عندما دخلت السنة الأولى في المدرسة رقم 1 في مدينة بتلميت الجميلة وأتذكر المرافق الذي كان يرافقني وهو مراقب آنذاك (الشيخ ولد أمير) على ما أعتقد فأخذ بيدي وأوقفني في باب القسم واستقبلنا المدير (محمد سيد ) قائلا : تفضل يا بني .. ادخل فإن هذا القسم هو الذي كان يدرس فيه رئيس الجمهورية الأستاذ : (المختار ولد داداه) .. اجلس هنا مع أصدقائك ..!
لم أفهم ما كان يعني بذلك السيد المدير إلا بعد ذلك بفترة طويلة عندما تم تعيين السيد محمد الأمين السالم ولد الداه حاكما لمدينة أبي تلميت الجميلة .. ففي هذه الفترة بدأت (الحرب) سياسيا وإعلاميا تبعا لسياسة فرق تسد كما يفعل المستعمر، وانقسم سكان المدينة إلى قسمين هما : (البساط – النكاطة).
وهنا أرجع إلى الموضوع حتى لا أبتعد عنه فقد قام الحاكم وجنوده وأتباعه المجندين بحملة واسعة على كل البنايات القديمة التي كانت تعتبر معلما من معالم المدينة وخاصة التعليمية والثقافية بما في ذلك المدرسة رقم 1 بأبي تلميت، و التي هي أول مدرسة تم إنشاؤها في موريتانيا، وأول مدرسة درس فيها أول رئيس موريتاني وهو الأستاذ أبا الأمة : المختار ولد داداه رحمه الله رحمة واسعة وأدخله فسيح جناته.
لقد دمرت هذه البناية بصفة نهائية .. وبنيت أخرى بجانبها وهي ضعيفة جدا .. وأشير هنا بأنه كان بالإمكان بناية المجمع المدرسي الممول من طرف دولة قطر بالتنسيق مع الهيئات المعنية بما في ذلك البلدية أن تبنيه على أنقاض هذه المدرسة ليكن معلما بارزا وذكرى لهذه المدرسة العتيقة.
وأرجع وأقول أنه انتابني شعور وأنا أنظر إلى هذه المدرسة”مدرسة العدالة”هي محطمة ومدمرة بمادة تشبه (الديناميت) لا آثار ولا أنقاض .. لقد اختفت بكاملها كما اختفى اسمها ودمر إلى الأبد .. إنها (العدالة). حينها قلت : هل نحن في أرض المليون شاعر ..! لا بكاء على الأطلال ..! أم نحن في أرض المليون تاجر ..! كل شيء يباع..
. البحر.. الأرض.. الأجواء .. هذه هي موريتانيا
وهذا بصراحة هو واقع بلدنا اليوم وهو ما عبر عنه الأديب بعفوية لكن هذا في جانب الأخلاق فما بالك بالمعاملات التجارية وانتشار الفساد الإداري والمالي فالحكومة تبيع كلما تملك عن طريق وزارة المالية وراء الكواليس باسم المناقصات (الساحات العمومية...، المدارس العمومية...، أحياء بكاملها...، بلوكات...، BMD ) هذا على المستوى الوطني الذي برعت فيه حتى أصبحت تصدره على المستوى الخارجي حيث أصبح مفهوم جديد وهو الدبلوماسية التجارية (بيع أماكن السفارات والبداية بالولايات المتحدة الأمريكية والحكومة لها الحق في ذلك...لأنها تعرف جيدا بأنها انتخبت من طرف الشعب... هذا الشعب الذي باع ضمائره – هو الآخر – من أجل إنجاحها.
محمد عبد الله ولد أحمد مسكه / كاتب صحفي ومهتم بالقضايا الوطنية