تعيد الولايات المتحدة احتلالها للعراق مرة ثانية تحت عنوان تأهيل القوات العراقية وتدريبها لمواجهة “الدولة الاسلامية”، ولكنه احتلال سيتم هذه المرة بموافقة الحكومة العراقية والحاحها.
وزارة الدفاع الامريكية “البنتاغون” اعلنت يوم الجمعة الماضي انها ستضاعف عدد عسكرييها في العراق بإرسالها 1500 مستشار عسكري اضافي لتدريب ومساعدة القوات العراقية بما فيها قوات البشمرغة الكردية في حربها ضد “الدولة الاسلامية” في اطار استراتيجية الولايات المتحدة في “دعم الشركاء في عين المكان”.
السيد حيدر العبادي رئيس الوزراء العراقي الجديد الذي رفض وجود اي قوات عربية او اسلامية على ارض العراق لقتال “الدولة الاسلامية” الى جانب القوات العراقية رحب بشدة بهذه الخطوة الامريكية التي قالت الادارة الامريكية انها ترسل هذه القوات بناء على طلبه.
الرئيس اوباما قال في تصريحات ادلى بها السبت ان هذه القوات لن تشارك في القتال بل ستركز على تدريب المجندين العراقيين وعدد من العشائر السنية التي تقاتل “الدولة الاسلامية”، ولكن ارسال هذه القوات الامريكية الى محافظة الانبار بالذات يكذب هذه الاقوال ويؤكد انها ستذهب الى هذه المنطقة للقتال وادارة المعارك، والا لماذا لا تتم عمليات التدريب هذه في محافظات اخرى في الجنوب مثلا؟
هذه القوات الامريكية التي تتضاعف اعدادها يوما بعد يوم (وصلت حتى الآن الى 3100 “خبير” عسكري وجندي) هي قوات احتلال وليست قوات تدريب، ومن يقول غير ذلك يغالط نفسه، قبل ان يغالط الآخرين، خاصة عندما تأتي هذه بناء على طلب حكومة عراقية “تباهت” بأنها حررت العراق وانهت الاحتلال الامريكي ورفضت بقاء جندي واحد على ارض العراق، عندما رفضت منح الحصانة لاي قوات امريكية تبقى بعد الانسحاب الشامل.
لا نعتقد ان حكومة السيد العبادي، التي من المفترض ان تكون دائرة تمثيلها للعراقيين اوسع من حكومة السيد نوري المالكي، ستجد التأييد من قطاعات عريضة من الشعب العراقي من ابناء الطائفتين الشيعية والسنية لخطوتها هذه بإستدعاء قوات امريكية لاعادة احتلال العراق، وانتهاك سيادته الوطنية، تحت ذريعة محاربة “الدولة الاسلامية”.
وجود هذه القوات الامريكية على ارض العراق سيكون عامل توتر، وتكريس للطائفية في العراق، وسيصب في مصلحة “الدولة الاسلامية”، واضفاء طابع وطني على وجودها وحروبها، وغير وطني بل و”عمالة” على من استدعوها لحمايتهم منها، فالشعب العراقي، بل معظمه، لا يمكن ان ينسى ان معظم ازمات بلاده الحالية، وتحويلها الى دولة فاشلة، تمزقها الصراعات الطائفية، جاءت بسبب الاحتلال الامريكي للعراق عام 2003، بل ان “الدولة الاسلامية” نمت وترعرعت، واشتد عودها لان هذا الاحتلال ومجازره وفر لها البيئة الحاضنة والمناخ الملائم.
الاحتلال الامريكي هو الذي حلّ الجيش العراقي وقوات الامن، ومارس كل انواع الاذلال ضدهم، وقذف بهم الى الشارع استجابة لنصائح حلفائه الذين قدموا على ظهور دباباته، وها هم يعودون مقاتلين شرسين تحت مظلة “الدولة الاسلامية” متعطشين للانتقام والثأر.
الحاكم الامريكي بول بريمر الذي اتخذ قرار حل الجيش العراقي، وانشاء الجيش الجديد الذي فر ثلاثون الفا من قواته من الموصل بملابس مدنية ولم يطلقوا رصاصة واحدة ضد “الدولة الاسلامية” وقواتها الزاحفة الى المدينة، والآن يقولون انهم جاءوا لاعادة تأهيل هذا الجيش مرة اخرى، وتدريب “صحوات” عشائرية جديدة.
الظرف الذي سمح بقيام قوات “الصحوات” التي اسسها الجنرال الامريكي ديفيد بترايوس وبلغ تعدادها ثمانين الفا عام 2006 للتصدي لمقاتلي تنظيم “القاعدة” هذا الزمن تغير، كما ان “العدو” تغير ايضا، فـ”الدولة الاسلامية” ليست “القاعدة”، ومعظم مقاتليها من ابناء العراق، والاهم من هذا كله، ان غالبية العراقيين، خاصة من مقاتلي قوات “الصحوات” لا يثقون مطلقا بالامريكيين الذين خذلوهم، وتخلوا عنهم، مثلما لا يثقون بالحكومة العراقية التي رفضت استيعابهم في الجيش والاجهزة الامنية من منطلقات طائفية بحتة.
لا نعرف كم مرة ستدرب الولايات المتحدة الامريكية الجيش العراقي، وكم مرة ستعيد تأهيله، وكم ستنهب من الخزينة العراقية مقابل ذلك، فقد امتصت اكثر من خمسة وعشرين مليار دولار من عرق الشعب العراقي من اجل هذه المهمة على مدى عشر سنوات، فما الذي تغير الآن، ولماذا تنجح هذه المرة حيث فشلت في المرة او المرات السابقة؟
فاذا كان هذا الجيش الذي يزيد تعداده عن نصف مليون ضابط وجندي، علاوة على مثل هذا الرقم من القوات الامنية، ومسلح تسليحا جيدا بأحدث المعدات الامريكية، فشل في هزيمة “الدولة الاسلامية” ومنع استيلائها على نصف العرق تقريبا وفي ايام معدودة، فإن كل محاولات “الترقيع″ الجديدة التي تشرف عليها امريكا ومستشاريها سيكون مآلها الفشل.
ما لا تدركه امريكا وحلفاؤها العراقيين، الجدد والقدامى، ان مشكلة الجيش العراقي ليست في التدريب ولا المعدات، وانما في غياب “العقيدة” القتالية الوطنية الجامعة التي توحد العراقيين جميعا تحت مظلتها، وتدفعهم الى الموت دفعا من اجلها.
الطائرات الامريكية التي تقصف قواعد وتجمعات قوات “الدولة الاسلامية” في العراق وسورية طوال الشهرين الماضيين هي الاحدث في العالم، وطياروها الاكثر براعة وتدريبا، ومع ذلك لم تفلح حتى الآن في وقف تقدم هذه القوات في عمق مدينة صغيرة مثل “عين العرب ـ كوباني” السورية ذات الاغلبية الكردية.
امر مؤسف ان “العراق الجديد المحرر” يستعين بقوات امريكية، من اجل مواجهة تنظيم لا يزيد تعداد قواته عن خمس جيشه وقواته الامنية ولم يتدرب على ايدي الامريكيين وغيرهم، ويقاتل ببقايا معداته واسلحته التي استولى عليها دون قتال بعد اقتحامه لمدينة الموصل.
القوات الامريكية تعرضت لهزيمة مذله في العراق، وها هي تعود للمصيدة نفسها، وستواجه المصير نفسه على ايدي كل العراقيين باستثناء من قدموا بلدهم لقمة سائغة لها، واضفوا شرعية زائفة على احتلالها الجديد مثلما فعلوا مع احتلالها الاول، والايام بيننا.
عبد الباري عطوان