بقلم الأديبة: د.سناء الشعلان/ الأردن
[email protected]
الحقيقة أنّ كُتب السّير الذاتية -أيّاً كان شكلها السّرديّ- لا تروقني في الغالب لتهافتها الاستعراضيّ الكاذب في معظم الأوقات،وقلّما تاقتْ نفسي إلى أن أكمل القراءة فيها،إلاّ في القليل منها ولأسباب بحثيّة أو فضوليّة بحت؛لما فيها من بطولات دكنشوتية ممجوجة. لكنّني أستطيع أن أزعم أنّ القليل من هذه السّير الذّاتية قد شدّني نادراً إن صدر بلغة صادقة وصريحة تملك شجاعة خاصّة في تعرية ذوات أبطالها وواقعهم دون عمليات تجميل،وهي أقلام قليلة ومعدودة على الأقلّ على مستوى المشهد العربيّ بما هو مكتوب من سير باللّغة العربيّة أو مُترجم إليها.لكن كتاب السّيرة الذّاتيّة الذي يحمل اسم "السّير في الطّريق السّريع" قد أثار انتباهي،واسترعى توقّفي عنده،لعلّ اللّغة العربيّة الرّشيقة التي تُرجم الكتاب إليّها وبها هي أوّل ما لفت انتباهي،واستدعى إرساء مرساتي،إنّها لغة عربيّة جميلة يُترجم إليّها الأستاذ الدكتور مجيب الرحمن النّدويّ،ولم أعجب عندما قرأته اسمه على التّرجمة بمستوى رقيّ لغته العربيّة وفصاحتها؛فأنا أعرف أيّ لغة عربيّة فصيحة صافية يملك،وهو أستاذ الأدب الحديث في جامعة جواهر لآل نهرو في العاصمة الهنديّة دلهي،كما شغل من قبل منصب رئيس مركز الدّراسات العربيّة والإفريقية،ورئيس تحرير المجلة العلميّة الدّورية المحكّمة الصادرة عنه،فضلاً عن جهوده المشرفة في خدمة العربيّة والجهد العلميّ والبحثي في صدد هذه المهمة الشريفة التي انقطع لها،لاسيما في حقول الدّراسات والإشراف على الأطروحات،وتنظيم حلقات البحث العلميّ والنّدوات والمؤتمرات المحليّة والدّوليّة.ولكنّني عجبتُ من أنّه لم يخبرني من قبل عن هذا الكتاب السّيريّ الذي ترجمه،وخمنّت أنّ تواضعه المعروف عنه يمنعه –كعادته - من أن يتفاخر بمنجزه أو يلوّح به أمام الجميع.
قبل أن أبحر مع الكتاب سألتُ الأستاذ الدكتور مجيب الرّحمن النّدوي عن سبب قيامه بترجمة هذا الكتاب من لغته الأم التي كٌتب بها إلى اللّغة العربيّة،فردّ على سؤالي قائلاً:" بحكم اطلاعي على عمق العلاقات الاقتصادية والسياسية والثقافية والشعبية بين الهند والإمارات كنتُ حريصاً جدا على قراءة كتب ومصادر تحكي قصة نشأة مدينة دبي ونموها وتطورها المدهش في العصر الحديث،وقد عملت الأفلام الهندية على ترسيخ صورة مشرقة لدبي في أذهان المشاهدين الهنود حيث باتت دبي رمزاً للثراء السريع ومن ثم صارت مقصداً للباحثين عن العمل والمغامرين في التجارة والأعمال. والآن تستضيف الإمارات أكبر جالية مقدرة بـ 2.6 مليون نسمة، ولحسن الحظ لقيت رجل أعمال هندي بارز مقيم في دبي منذ ستين سنة بواسطة صديق حميم لي مقيم في دبي،وأعجبتني قصة نجاحه الباهر في مجال الأعمال في دبي،ولما قرأت سيرته الذاتية باللغة الإنجليزية "السير في الطريق السريع" أعجبتني قصة حياته التي تكاد تكون أسطوريّة، وشدني أسلوب الكتاب، وطريقة عرضه لأحداث حياته، ووجدتُ أنّ هذا الكتاب لا يحكي قصة حياة فرد ونجاحه في مجال الأعمال التّنافسي في دبي فحسب، بل يحكي أيضاً قصة نشأة دبي وتطورها إلى مدينة عملاقة منذ بداية النهضة العمرانية في الإمارات قبل ستين سنة تقريباً، كما يدوّن الكتاب تطور العلاقات والأواصر بين البلدين، ويتضمن الكتاب دروساً وعبرا للجميع؛لأن الحكمة لحمته والخبرة أساسه، ولما عرض عليّ المؤلف أن أقوم بترجمة الكتاب إلى العربية لم أتردد في قبول عرضه، وعكفت على التّرجمة ستة شهور، ويسعدني صدور الكتاب في هذا المظهر الأنيق من مدينة دبي".(1)
كانت هذه الإجابة محفزاً لي على قراءة كتاب "السّير في الطّريق السّريع" ،لاسيما أنّني تلقّيت إجابة مقنعة حول سبب ترجمة هذا الكتاب إلى العربيّة،كالعادة إجابات د.مجيب الرحمن مقنعة لكلّ من عرفه أو تواصل معه عن قرب،وهي إجابة جعلتني أفتح هذا الكتاب بفضول لأرى ذلك الشّخص الذي نال اهتماماً من المترجم ليترجم هذا العمل الضّخم،فاكتشفتُ أنّ اسمه د.رام بوكساني،وهو قامة هنديّة تجاريّة وإنسانيّة نمت وأزهرت في الإمارات،وفيما بعد اكتشفتُ أنّه يشكّل بكتابه هذا وبقصة حياته حلقة جميلة من حلقات الاندماج العربيّ الهنديّ عبر دوائر تاريخيّة عملاقة جمعت هاتين الحضارتين.
لم أكن أعرف د.رام بوكساني على المستوى الإبداعي أو الأكاديميّ كما أعرف موقع د.مجيب الرحمن الندويّ على هذه الخارطة الملبسة؛وعذري في ذلك ضعف اهتمامي- إن لم يكن انعدامه- بأهل المال وناشطيه،ولكنّني عندما قرأتُ هذا الكتاب،ونقلني الفضول إلى الاطلاع على منجزات صاحبه،عرفت أنّه استطاع في كتابه هذا أن يخلق فضاء جديداً له،وهو فضاء الكلمة التي قلّما يبغي أرباب المال والصّناعات أن يحلقوا فيها؛فمحبو الكلمة هم جمهور آخر في الغالب.على كلّ حال وجدتُ أنّ د.رام بوكساني يجمع الكثير من أنواع الحبّ في ذاته بدليل منجزه الذي راق لي أن أتعرّف عليه،والكتاب يقدّم رحلة في هذا العالم الشّائك المحموم بالعمل والتّحديات،ليغدو في نهاية المطاف بعد 53 سنة قضاها في دبي رئيس مجموعة "آي.تي.أل"،بعد أن شغل منصب مدير بنك" أندوسلاند"،فضلاً عن أنّه عضو شركة "أندوسلند" العالميّة المحدودة في جزيرة موريشيوش،فضلاً عن عضوية الكثير من الشّركات الأخرى المهمة.وقد مُنح شهادة الدكتوراة من الجامعة العالمية في واشنطن عام 2004 عن أطروحته "حكومة دبي:تأثير التّقاليد القبيليّة في صنع القرار خاصة في فترات الأزمات خلال تطوّر المدينة"
بين يدي الطّبعة الثانية هذا الكتاب " السّير في الطّريق السّريع"،وهي صادرة عن دار كتّاب للنّشر والتوزيع في عام 2016،والكتاب يقع في 459 صفحة من القطع الكبير،ويتصدّر الكتاب تقديمان؛تقديم الطّبعة الأولى،وتقديم الطّبعة الثانية،فضلاً عن تمهيد للكتاب بقلم :جيه بي فاسواني سادهو فاسواني ميشيون.وقد لفت نظري في التّقديمين تلك السّرديّة التلقائيّة الجميلة التي يمكلها د.رام،فهو يحدّثنا بوضوح وصدق وبساطة عن حياته وفكره دون تعقيد فكريّ أو لغويّ أو بنائي أو تجارب شكليّة ملفتة أو جديدة،هو باختصار يسكب في أعماقنا بعضاً عملاقاً من ذاته عبر مسيرته الطّويلة فيما أسماه " الطّريق السّريع" لنكتشف أنّه كان فعلاً" الطّريق الصّعب"،إنّه يقول في جملة ما يقول :" أمضيتٌ 57 عاماً من حياتي في دبي،وهي أضعاف المدّة التي أمضيتها في بلدي...حيثُ كنتُ في الثامنة عشرة من عمري عندما جئت إلى هنا...جامعتي كانت أسواق دبي،وتعلّمتُ أيضاً دروس الحياة من هناك،في الحقيقة دبي صاغت حياتي،وكان للثّقافة العربيّة تأثير كبير علي،وكتابي هو عبارة عن تحيّة إلى البلدان والشّعوب والمجتمعات والشّركات التي لعبت دوراً هامّاً في تكويني"(2)
الكتاب ينقسم إلى 18 باباً تحمل على التّوالي العناوين التالية :يوم جديد حياة جديدة،الطفولة،النشأة في بارودا،شعب مع تاريخ،التقسيم الطبقيّ،علاقة مع العرب،الغوص من أجل اللؤلؤ،البصمة البريطانيّة،الانتقال إلى العصر الحديث،البقاء للأصلح فقط،عندما جرت الأعمال على أساس الثقة وحسن النية،كلما زادت الأشياء تغيراً بقيت على حالها،أمر يتعلّق بالخيارات الشّخصيّة،هل السندية في خطر أم أنّها حيّة وفي حالة جيدة؟لا نهاية تتغيّر،الهنديّ غير المقيم الذي صار يتيماً،وهناك جيل جديد،أكبر سنّاً وأكثر خبرة.إلى جانب ملحق يتضمّن نبذة عن الاستعراضات المنشورة في مختلف الصّحف والمجلات عن هذا الكتاب عند نشره في طبعته الأولى،وبعض رسائل القرّاء ممهورة بأسماء من أرسلها ومكان إقامته،وينتهي الكتاب بملحق صور فوتغرافيّة لمحطات أسرية وعمليّة رسميّة في حياة د.رام بوكساني،وهذا الملحق الفوتوغرافيّ يحمل اسم" على مدى السّنوات".
يقول د.رام بوكساني في كتابه آخر سطور من كتابه هذا :"لما جئتُ هنا كمراهق كانت عندي المستكشِف.وعلى مرّ الزّمان تضاءل الفرق بين المستكشِف والمستكشَف.وهذا شيء طبيعيّ،وسوف يجعل هذا الإدراك المرء واعياً بنقاط القوّة والضّعف في شخصيته.لقد قضيت جلّ حياتي في استكشاف هذا المكان،وقد أدركت أنّني أستكشف المكان المناسب،لقد أظهرت لي دبي طريقة أفضل للحياة"(3)
وهذا الرّجل النّاضج الذي يكتب هذه الكلمات في آخر كتابه،هو امتداد ذاك الفتى الشّاب الذي كتب د.رام بصوته ومشاعره وتجاربه في أوّل كتاب سيرته الذّاتيّة هذه:" كنتُ في الثّامنة عشرة من عمري عندما جئت إلى هنا،ولم تكن في ذلك الوقت كهرباء،ولا ماء جارٍ،ولا طرق،جئت عن طريق الباخرة،ونزلت في منطقة الخور"(4)،وبين النّقلين نستطيع أن نقرأ د.رام الإنسان والعامل والنّاجح والنّاضج ومن ثم صاحب الرّؤية والتّجربة،ونرى محطات طريقه السّريع المتعب المضني الذي جعله النّاطق الرّسميّ باسم الجالية الهنديّة المقيمة في الإمارات في ظلّ ما لعبه من دور استراتيجيّ في التّواصل بين الجالية الهنديّة والحكومة الهنديّة؛فحصل على جائزة "رجل العام" من مجلة "بهارات راتنا" الواسعة الانتشار في أوساط الجالية الهنديّة في العالم،إلى جانب منحه الكثبر من الأوسمة والتكريمات،على رأسها تكريمه من الرّئيس الهنديّ.
كما أنّ د.رام قد اندغم في أعمال مؤسستيه وتطوعيّة كثيرة؛منها على سبيل الذّكر لا الحصر،أنّه مؤسّس المنتدى الاقتصادي الهنديّ في خارج الهند،والنّادي الهنديّ في دبي،فضلاً عن أنّه عضو أمناء مركز نور لتدريب الأطفال من ذوي الاحتياجات الخاصّة.
قرأتُ في خضم بحثي عن هذا الكتاب وصاحبه أنّه قد تُرجم إلى الكثير من اللّغات،ومنها اللّغة السّندية والهنديّة والغواجاراتي والمراثي والأوردو،ولذلك أتوقّع أنّ هذه التّرجمات أتاحت لقطاع كبير من البشر أن يطالعوا هذه السّيرة الطّويلة الدؤوبة التي تمخّضت عن نجاح عملاق،جعل هذا الصّبي السّنديّ المولود في بيئة متواضعة في مدن حيدر آباد يرسم أقداره النّاجحة بنفسه عبر رحلة امتدت من الهند على دبي،وعاشت مخاضات عملاقة وتحديات جسيمة،ثم آلت إلى نجاح باهر منقطع النّظير يعزّ أن يتحقّق لغيره بسهولة،وهذه الرّحلة تقطر بالرّؤية الفلسفيّة والفهم الخاص للحياة عبر بوتقة عملاقة من التّجارب والخبرات والمعلومات والأفكار الحاضنة من ينبوع متدفّق من الثّقافة التي تنال نصيبها من كلّ حدب وصوب،فنقرأ خلاصة تجارب د.رام في كتابه هذا ممزوجة بحكم غيره وأفكارهم عبر رصدها،والانطلاق منها في عرض ما في جعبته من الحكايا والقصص والتّجارب.
أستطيع القول إنّ هذا الكتاب صادقني بشدّة بقوة قدرته على تجنيد الجانب الوجدانيّ والعقليّ فيمن يقرأ فيه؛إنّه صوت رجل كبير حكيم وصل السّتين من عمره،ويقصّ قصّة نجاحه بصدق وروية على كلّ من يحبّه أو يتطلّع ليعرف المزيد من أحاجي نجاحه وأسرار انتصاره في معركة الحياة على حرمانها وهزائمها؛لعلّها تكون إشارات مرشدة له في دربه المنشود إن بغى أن يسير عليه بقوة وإصرار د.رام بوكساني،فهو باختصار شديد يخطّ لنا درب " الطّريق السّريع" الذي اختاره في رحلة حياته المضناة المتعبة،لتكون ناجحة ومفيدة ومفعمة بقوة خارقة اسمها الإصرار.
الإحالات:
1- مضمون مراسلة بين د.سناء الشعلان وأ.د مجيب الرحمن بتاريخ 2017-2-4
2- د.رام بوكساني: السّير في الطّريق السريع،ترجمة أ.د مجيب الرحمن،ط1،دار كتّاب للنشر والتّوزيع،الإمارات العربية المتحدة،2016،ص9.
3- نفسه :ص382.
4- نفسه:ص9.