كان يفتش أرشيف الفن الموريتاني يطلق العنان لأذنه الصماء عن كل ما هو جديد يحاول اصطياد تاريخ من الفن الملتزم والشفاف، ذلك التاريخ الذي لم يجد كتابا ومؤرخين ينفضون عنه الغبار..
استمع إلى أحمدو ولد الميداح ينشد "والله ما نركد ما جان انبارا"..
الشيخ ولد آبه يحن إلى أطلاله "أشاريمْ اعرفتو فيامْ ... مزال أشاريمْ أشاريم" ..
محمدن ولد سيدي ابراهيم يحكي قصة قيس الموريتاني وليلاه بنت البار على وقع نغمات "آردين" آماش.. سيد أحمد ولد عوه يحكي قصصه الخيالية وهو يحرك أنامله على "تيدنتيه" في مقام مكه موسى..
محجوبه بنت الميداح تغني "عريتْ مثقلْ ذي الصّمْره.. عريت واشكال اعل امره" ..
والخليفه ولد أيده " عند انخيل امحيميد اكبيل.. طيت امكيل ؤحانيت الليلْ"..
وكعادتها النعمه بنت الشويخ تغني لسحرة شعراء يتغزلون على طريقتهم "تمرْ النعمه واتْمرْ تيشيتْ ... تمْرْ الرشيدْ ؤتجكْجه"
كان الفتى الحائر يجول في ذلكم التاريخ، ويقلب أدارج الأشرطة ورقع أسلاكها، تسيل دموعه والمشاعر تتنازعه لا يدري هل يتعظ بفناء الدنيا فكم تذكر أشخاصا استمعوا معه لهذا الشريط أو ذاك وهم الآن في رحمه الله الواسعة..
وبينما الدموع تنهار وهو يتذكر أصدقاء اشتاق لهم ومعاهد سمع فيها نفس النغمات..
بينما هو كذلك إذا بشريط متآكل كأنه فتح في منتصف ثمانينات القرن الماضي في مسجل عتيق من نوع "SANYO"، وكأن شبانا وفتيات قرعوا عليه الشاي ذات ليالي مقمرة "مثلها لا يعود" في استماعه لتلك النغمات الجميلة المتقطعة أحيانا و"الموكولة" أحيانا أخرى، كان الحديث مع النفس:
ـ هو شريط لمحجوبه بنت الميداح في بداية السبعينات ومعها داداه ولد الشويخ ..
بل هو للفنانة النعمه بنت الشويخ وهي في مراهقتها الأولى..
ـ كلا.. كأني أعرف هذه النغمات واستمعت إليها مرات ومرات عندما كنا مراهقين..
الآن ينقطع الشك باليقين هو الصوت الذهبي للفنانة أبتي بنت اشويخ، هو تبراع تلك الفنانة الثائرة رغم أن مخارج الحروف لم تعد واضحة، وكلمات الشريط غامضة، لكن النغمات هي تلك النغمات والحنجرة هي حنجرة رفيقة الملك همام، كلمات من التبراع العتيق والحب النظيف متقطعة " بصوت الفنانة أبتي بنت الشويخ" كعادتها صوتها قادم من الأعماق وإن بدت الحروف متقطعة تبقى النغمات:
"...ألّ حدْ === كيف أحمدْ والل كاعْ أحمدْ"
"ألاّ يسمحلي=== ................."
"شوفت ذي الوتَ== لا حول ولا قوةَ"
" يوكي زادْ ألّ==== حدْ امنينْ........."
".........====يالمسوحل وهايْ ابْكيْتْ"
"ما كنتْ انقدّرْ === عن حدْ افّيلحْ يصندَرْ"
تمنى لو زار هذه الفنانة المعتزلة أكثر من عقدين من الزمن، دعا الله لها بطول العمر والصحة والعافية ومضى وهو يستمع لذلك الشريط المتآكل..
كم من فتية سامروا هذا الشريط؟ وكم من فتيات قلدن ما فيه من التبراع؟ وكم من كأس كثيب رملي شاهد على هذا الصوت... وتلك الأيام نداولها بين
مختار بابتاح