لم تفاجئني نسبة المشاركة التي أقبل بها الموريتانيون على رآسيات 2014، مثلما لم تفاجئني النسبة التي أقبلوا بها أيضا على نيابيات وبلديات 2013، وقد عددت في كلام سابق كل العوامل التي تتحكم في سياستنا المحلية، وهي عوامل لا يعقل أن يدركها شخص عادي غير سياسي مثلي، وتغيب عن سياسيين يفترض فيهم التخلي عن ممارسة السياسة في العالم الافتراضي، وترك لعب الأطفال للأطفال!
فنحن لا نتعامل في الانتخابات إلا مع المسجلين على لائحة التصويت، الذين لم يسجلوا على تلك اللائحة أصلا إلا لأنهم مهتمون بالعملية الانتخابية كل ومرد اهتمامه، وقد سجل على اللائحة الحالية نفس العدد تقريبا الذي ظل يسجل للانتخابات خلال السنوات الأخيرة، والذي ظل هو القاعدة التي تجري على أساسها كل الاستحقاقات، رآسية كانت أم تشريعية، بمشاركة واسعة للطيف السياسي أو بمقاطعة بعضه، مما يعني أن هذا العدد من المواطنين هو الكتلة الناخبة التي يصوت ربعها أو ثلثها أو نصفها، وعلى أساس ذلك نقول إن نسبة المشاركة كانت كذا. أما غير المسجلين فقد يكون من بينهم مقاطعون من موقف سياسي، فلا أحد ينكر أن للمعارضة أتباع، ولكن منهم أيضا من لا يملك أوراقا بعد، ومنهم غير المهتمين، ومنهم الكسالى.. كالمفطرين في شهر رمضان ليسوا كلهم عصاة، فمنهم غير البالغين، ومنهم المرضى، ومنهم المسافرون.. وقد قرأنا نسبة المشاركة لا من محاضر لجنة الانتخابات، ولكن من خلال أنشطة المترشحين والمقاطعين على الميدان.
وقد صوت أكثر من نصف هذه الكتلة الناخبة في الاستحقاق الرآسي قبل يومين، ومن لم يصوت منها فإن لعدم تصويته تفسيرات شتى ينطبق عليها ما ذكرناه آنفا، مع احتمال امتناع جزء منها عن التصويت استجابة لدعوات المقاطعين، لكن ما قيمة تلك الإستجابة إذا كانت لم تصل، بل لم تقترب، من تحقيق آمال المقاطعين، الذين بدا أنهم كانوا قلقين للغاية ومتوترين، بما عكسته بياناتهم الاستباقية وعلى مدار الساعة عن نجاح المقاطعة، دون الارتكاز على أي معطى على الأرض، مع عدم الثقة في نجاعة وسائل المقاطعة؟ فيعولون في نجاح ذلك المسعى على المناخ تارة، وعلى المونديال والتعقيدات الفنية للعملية الانتخابية كمن وجدوا صعوبة في الحصول على أرقامهم على اللائحة الانتخابية، أو كمن لم يجدوا وسيلة نقل تارة أخرى، وهي متغيرات قد تحد ، وحدت فعلا ، من نسبة الإقبال، فليقولوا لنا إن أثر تلك العوامل المتغيرة في الحد من درجة الإقبال كان " تزبوت " نقبل كلامهم مثلا، لكنه لا يحسب لجهودهم ودعواتهم للمقاطعة! ولا يمثل الفرق بين نسبة المشاركة في النيابيات الماضية والرآسيات الحالية شيئا آخر بالأساس، غير الفرق بين الحماس الذي يطبع الانتخابات المحلية عادة، والتي هي فرض عين " سياسي " بالنسبة لمجتمعنا، وبين حماسهم في الانتخابات الرآسية التي هي بالنسبة له فرض كفاية يغيب فيه دور وزخم التنافس المحلي..
لم يفأجئني كذلك فوز المترشح محمد عبد العزيز، لا للإعتبارات التي يحسم بها البعض عادة حتمية فوز رئيس وهو في السلطة في عالمنا الثالث، لكن هناك فرق كبير بين من يفوز فقط لأنه في السلطة، وبين من يفوز لأنه في السلطة، لكنه مدفوع برصيد راكمه خلال سنواته في الحكم بتعاطى سلس، وبارع، في بعض الأحيان مع شؤون الحكم داخليا وخارجيا ، فضلا عن انجازات بارزة علمها من علمها وجهلها و من جهلها، أو أنكرها من أنكرها، لكنها واضحة للعيان وتعززها الأرقام بالكيلومتر طرقا لربط مناطق الوطن، وبالمتر المربع قطعا أرضية ل " المدجنات البشرية " في كبريات مدننا، وبالمتر المكعب مياها نقية، وبالميجاوات قدرة كهربائية، وبالهكتار مساحات زراعية، وبالأطنان معادن وحبوبا، وبالميكاهارتز أثيرا حرا تعدديا.. مع عدم إغفال أو إهمال أي جانب من جوانب الحياة الإقتصادية والإجتماعية والثقافية والأمنية، فلا مجال من تلك المجالات إلا ومسه ما يسمح به الوقت والإمكانات من تدخلات، لا يحد منها سوى تزاحم الحاجات في مجالات، وضغط الأولويات في مجالات أخرى..
وقد قيل مرة ل " برنارد شو " : مالك تتحدث دوما عن المال ، بينما زميلك " جون " يتحدث دوما عن الأخلاق ؟ ، فقال : كل منا يتحدث عنما ينقصه.. ونحن في موريتانيا تنقصنا البنية التحتية والمرافق الأساسية، وبشكل حاد، قبل أي شيء ، وذلك ما نلاحظه ويلاحظه أي زائر قبل ملاحظته لأي نقص في مجالات أخرى ديمقراطية كانت أوحريات أو غيرها.. فلا يلومنا أحد إذن إذا أكثرنا من الحديث عن هذه المرافق والبنى التي بدون توفر الحد الكافي منها، سيبقى من العبث تناحرنا وتنافسنا على " أدرك أحمر " لا أسس فيه ولا محفزات لتنمية ولا حياة ، ومن باب أحرى ديمقراطية حقيقية !
وحتى الديمقراطية الحقيقية التي ينادي البعض بها، كنا نعتقد أن لها مفهوما واحدا ، لكن بعد أن أتانا بالأخبار من لم نزود، إذا بها تحمل أكثر من معنى، ولكل فهمه الخاص لها، وأن من أحد معانيها عند البعض، وبكل بساطة، " أن تنازل لي عن كرسيك وأدعم ترشحي، ولك ما تريده من ضمانات ، أما وقد رفضت فسوف أحاكمك " !! ليس ذلك فقط، بل هي عند آخرين تعني أيضا أنك مرشح للعسكر بحت حناجرنا رفضا لك وسخرية من قدراتك وطعنا في ماضيك ، لكنك - وأنت أنت - قابل للتحور إلى رئيس منتخب في أنظف انتخابات عرفتها البلاد وإليك الطريقة.. يا ناس!!
لسنا كذلك " الحد الثاني " بحيث يوهمنا أيا كان بأنه قادر على تحويل بلد ضعيف المقدرات والمؤهلات أصلا ماديا وبشريا، ومنهك على أكثر من صعيد، لعبت به لعقود عاديات اللا مسؤولية واللا رؤية ولا آفاق، تحويلة من تلك الوضعية إلى فردوس تختفي فيه كل الفوارق والفجوات والتفاوتات، وتنعم ساكنته بالعيش الرغيد.. وكل ذلك في ظرف خمس سنوات، فمتى أجزت خمس سنوات في أغنى بلدان العالم لتحقيق ذلك؟! كاذب ومخادع من يَعد بذلك أو يدعيه، وساذج من ينتظره أويصدقه!
فلم تكن الخمس سنوات الماضية سوى فترة انقاذ وانتشال، وإزالة ركام لآثار بلد محطم على كل صعيد، والبحث في حطامه عما لا يزال صالحا للبناء عليه على قلته، كمريض السكري والضغط الذي لا يمكنه الخضوع لعملية جراحية، إلا بعد الكثير من التدخلات والانتظار لاستعادة وضعه الطبيعي وعودة أجهزته للعمل.. لكن مسافة الألف ميل تبدأ بخطوة ثم خطوات، وهو ما ميز السنوات الخمس أو الست الماضية، التي لم يضع منها من الوقت إلا ما حالت عوائق قاهرة دون استغلاله..
وكما قال الشاعر الشيخ ولد بلعمش في قصيدة نظمها صبيحة خروج رئيس الجمهورية من المستشفى العسكري بعد إصابته، يقول في مطلعها :
جُرحت ولم يُجرح تحديك يا فتى **بربك من أبقاك كالسيف مُصلتا
وبات قريرَ العين بالضر شامت ** فلما بدا الإصباح أصغى وأنصتا
إلى أن يقول في آخر بيت منها وهو بيت قصيدنا :
سأبقى طوال العمر للشعب شاعرا **وما كنتُ في ليل الشجون لأصمتا
وكذلك نحن، ما كنا لنرى بلدنا يتعافى وتضيء الآمال أرجاءه، محروسا وتتخطى طموحاته حدوده بتحد وثقة وإيمان وثبات، بعد عقود من الاستقالة والتقوقع والانكماش، والتسيير بمقاربة " تصريف الأعمال " والتيه بلا رؤية ولا نخوة ولا غيرة ولا طموح، ما كنا لنرى ذلك كله فنصمت أو نكون في صف آخر غير الصف الذي يتقدمه رئيس الجمهورية، أو نرتاب في تعهداته بعد أن أصبحت أمامنا ماثلة، ليس لأنه الوحيد القادر على الإيفاء بالتعهدات، أو أنه لا يوجد بموريتانيا رجال آخرون قادرون على القيادة بجدارة ونجاح.. فبالتأكيد هم موجدون، ومستعدون لوضع أيدينا في أيديهم والوقوف خلفهم، لكن ليس قبل أن نكمل المشوار مع من آنسنا منه عزيمة صادقة ورغبة جامحة في أن يكون لنا شأن ووزن، وأن لا نبقى همزة وصل كما كنا.
وفي الأخير أشير إلى أنه على الكل أن " إطول بالو " كما يقول المشارقة.. فلا نجاحات إلا ويصاحبها تشويش، كما أنه على أصحاب المبادرات والولاء التقليدي أن يدركوا أن " اتراب أندخلت " وأن يفسحوا في المجلس.. فلأول مرة يحظى مرشح رآسي في بلادنا بدعم شبابي قوي، عفوي ومنظم ومن خارج الأطر التقليدية، وأن ذلك في حد ذاته استحقاق، فحبذا لو كان سياسيو الثمانينات والتسعينات ومطلع هذا القرن يسمعون بحاسة أخرى غير الآذان، فيكونوا منصفين ويتعاملوا مع تلك الرسالة بتفهم وواقعية، ويدركوا أن هناك مثلا حسانيا يقول " الكال كرعتو يمسح فمو " ، على أن لا تفوتهم رسائل أخرى لم يصرح بها المترشح الفائز، لكنه حمل بها رؤساء حملته المحليين والجهويين مفادها أن لا مقايضة للأصوات بالمال من الآن.