في سنوات المراهقة تعلق قلبي بالفلسفة بسبب استاذ في الثانوية نقلني الى عوالم أفلاطون وسقراط وجعلني في كل درس اتبنى نظرية فلسفية واعتبرها قمة الإبداع ليعود في الحصة الموالية ليبين نقاط ضعفها، مما يجعلني استغرب من اعجابي السابق بها وتحولي الفوري لاعتناق نقيضتها، وهكذا دواليك الى ان أدركت نسبية الحقيقية وامتلكت قدرة على نقد الافكار وتمحيصها، وخبرت متعة ولذة التفكير والاكتشاف.
في الجامعة درستها بتعمق كمادة رئيسية وحصلت في احدى سنواتي على أكبر علامة في تاريخ كلية علم الاجتماع في حلقة البحث لمادة الفلسفة ـ 19 من 20 ـ حول موضوع التفكير الستاتيكي والتفكير الديناميكي، وما زلت حتى اليوم ادمنها واقضي الساعات الطوال في قراءة كل ما وصلت اليه يدي من كتبها والبحث عن مواضيعها في شبكة الانترنت.
مع كل ذلك أحس الآن بالعجز أمام سؤال طرح في البكالوريا بسنوات التسعينات في مادة الفلسفة وظني انه في حال قررت العمل عليه سأحتاج على الأقل لسنة كاملة من التفرغ والبحث المتواصل، ولست واثقا مع كل ذلك من ان جوابي سيكون على المستوى المطلوب.
كان الامتحان: لماذا لا تتكلم الحيوانات؟
المصيبة أن هذا السؤال يغطي مجالا واسعا ومعقدا، ومن الأجدر به ان يكون موضوع رسالة دكتوراه لطالب مميز.
يتناقض هذا النوع من الامتحانات مع أسس التعليم الحديث والذي يقوم على ان الذكاء ليس المقياس لنجاح أي طالب، فالفروق الفردية كالذكاء والغباء في معظمها مكتسبات فطرية لا يجوز بحال من الأحوال اعتمادها كمعيار رئيسي للحكم على مستقبل أي انسان، ولذلك تتجه أساليب التعليم الى ان تكون الأسئلة واضحة تتيح لكل من بذل جهدا ووقتا كافيا من التمكن من النجاح بيسر وسهولة.
الغريب ان امتحانات جامعات هارفرد وكامبردج للمتخصصين في الفلسفة أكثر وضوحا ومباشرة من اسئلة طلاب في مرحلة الباكالوريا بمدارسنا.
أسئلة البكالوريا الموريتانية في عمومها تعتمد على أساليب الألغاز والتعجيز، والهدف الحقيقي منها إقصاء العدد الأكبر من الطلبة، لسبب بسيط وواضح وهو عجز حكام البلاد عن توفير العدد الكافي من المقاعد في الجامعات ومؤسسات التعليم العالي في حال بلغت نسبة الناجحين المعدل الطبيعي العالمي، لتقوم المنظومة التعليمة بطريقة خبيثة بتحويل المسؤولية من الحاكم الفاسد الى الطالب وإقناعه بفشله وغبائه.
النسبة في المغرب لسنة 2016 بلغت 55.36 *وفي الجزائر** لنفس السنة 49.79 وفي سوريا*** سنة 2015 وصلت النسبة سنة 68.86 في التخصص العلمي و52.9 في شعبة الآداب.
قطعا لا يمكن اهمال عامل الانهيار الشامل في منظومة التعليم العمومي التي بلغت نسبة المترشحين منه للبكالوريا سنة 2016 32.87 في المائة***** مما يبيّن عزوف الأكثرية عن الدراسة في مدارس الدولة التي تئن تحت وطأة انعدام الوسائل والفوضى الإدارية وغياب المعلمين المزمن والفساد المخيف الذي وصل لاستحواذ الرئيس وعصابته على المدارس بعمليات شراء صورية وتحويلها لأسواق.
كان الانخراط في سلك التعليم ما قبل حكم العسكر يكفل عيشا كريما، وما زال يحضرني وصف أحد المتقاعدين لدخوله في سلك التعليم بالستينات والسبعينات وكيف وفر لعائلته الكبيرة قفزة نوعية ودخلا محترما، حيث بدأ براتب ستة آلاف في الوقت الذي كان سعر الشاة لا يتجاوز المائتين.
اليوم أصبح العمل في سلك التعليم إعلانا رسميا للفقر، وصار عدد كبير من المعلمين والاساتذة يفضلون افتراش رصيف سوق الهواتف المحمولة لبيع البطاقات والرصيد عوضا عن ممارسة المهنة النبيلة، نظرا للارتفاع الجنوني للأسعار وانهيار قيمة الرواتب والاحتقار للعلم والمعرفة والثقافة الذي ادى له صعود طبقة حاكمة من الجهلة.
المؤلم ان نسبة النجاح في سنة 1974 التي في موريتانيا بلغت 58 في المائة***** بينما وصلت في سنة 2016 لنسبة 11.28 في المائة.
إنها لعنة حكام العسكر الذين لم يكتفوا بالإتيان على الأخضر واليابس بل تجاوزوا ذلك الى تحميل الشباب عواقب عجزهم عن القيام بدورهم مما خلق لدى أجيال بأكملها إحساسا عميقا بالنقص ودفعها لأروقة البطالة ومهاوي الانحراف ومهالك التطرف.